جدول المحتويات
«نبض الخليج»
“كتاب عن جيل المثقفين والأدباء، حياتهم السرية، حياتهم العلنية، مشاركتهم في أحداث عصرهم، إنجازاتهم، هزائمهم، آرائهم، ادعاءاتهم، كبواتهم، كيف فكروا وتفكروا، تراجعوا وانهاروا، آمنوا، وخانوا، دونما مظاهر براقة، عرايا حتى من جلودهم، أسرار مواهبهم أو عبقرياتهم، مخاوفهم وعقدهم النفسية، ولا يستبعد ضحالتهم وبذاءاتهم وغرورهم”.
من رواية “الروائي المريب”
التجارب الروائية في توسيع مهارات التهكم الساخر
تنشغل رواية (الروائي المريب، 2025) بموضوعات ساسية واجتماعية وثقافية وأدبية، طالما عالجها الروائي (فواز حداد) في أعماله الأدبية، ومن أبرزها: سؤال الأدب بين الاتباع والإبداع؟ العلاقة بين الثقافة والسياسة، مستويات التعبير الممكنة في الأدب الروائي وحتى الشعري والقصصي. نجد في روايته الحالية حضور إشكاليات العلاقة بين السلطة والثقافة (المترجم الخائن، 2008)، وتحكم السلطة بالثقافة (السوريون الأعداء، 2014)، دور المثقف في التغير الاجتماعي والسياسي (تفسير اللاشيء، 2020)، وأسئلة الكتابة الأدبية والإبداعية (صورة الروائي، 1998). لكن ما يعتبر إضافة عميقة للرواية الحالية، هو مستوى التهكم والسخرية في تعامل الأديب مع كل هذه الموضوعات، فبالمقارنة بين الأسلوب الأدبي والصوت السردي في كل من الروايات المذكورة، نكتشف وكأن مقدار جرعة التهكم الساخر تزداد بين الرواية والأخرى، وصولاً إلى الرواية الحالية. فالكتابة عند حداد على هذا المستوى، تبدو وكأنها محاولات للكاتب في تطوير أدوات وآليات التفكير المتهكم والساخر، مع كل محاولة أدبية جديدة.
الأدب المدجن في التعليم المدرسي والمؤسسات الثقافية
تتألف الرواية من قسمين: القسم الأول من الفترة التاريخية الممتدة منذ وفاة (حافظ الأسد) حتى قيام الربيع العربي، ويمتد القسم الثاني على الفترة التاريخية بين الربيع العربي حتى السنوات الأخيرة من حكم بشار الأسد، بالإضافة إلى نهاية ملحقة بالرواية تتعلق بالحدث التاريخي السوري بعد سقوط نظام الأسد، ستلعب دوراً في علاقة مصائر الشخصيات الروائية بالحدث التاريخي السوري. وتشتبك الافتتاحية الروائية في لحظتها التاريخية مباشرة مع مفهوم الحياة والموت والخلود للشخص الحاكم في النظام الشمولي:
“تسرب الخبر من مصدر، لم يُفصح عنه، من فرط سريته وخطورته، الرئيس الخالد مريض وفي غيبوبة، قد لا يصحو منها. خبر لم يعلم به إلا القلة، لم يُصدقوه، أو خشوا تصديقه، الرئيس خالد لا يموت. مهما بولغ في هذا الحدث، ولو كان مصيرياً، فليس كبير الأهمية أدبياً، مثلما الرواية غير ذات أهمية سياسياً، وما تجاورهما في هذه اللحظة التاريخية إلا بحكم المصادفة البحثة، وإن كان ما سيتراكب من أحداث سيتداعى منهما. لو أن الرواية صدرت قبل سنوات”.
وتنتقل الرواية مباشرةً إلى توصيف واقع الثقافة في النظام الحاكم، البيروقراطية، المحسوبيات، من خلال شخصيتي الصحافي والكاتب:
“الصحافي فريد جسّام: يؤهله دوره القيادي كواحد من حراس الثقافة المعدودين في الجمهورية، الحفاظ على الأدب نظيفاً من المتطفيلن الأدعياء، يكشف الدخلاء ويشهر بهم، ولا يتسامح مع أية ظاهرة أدبية تستمد شهرتها من الدعاية. الكاتب الصديق حسين كروم، لديه الخبر اليقين، في مكتبه تنصب الشائعات والنمائم بأنواعها: الأدبية والنسائية واللحزبية والسياسية والجنسية والمخابراتية”.
ويعرج النص الروائي ساخراً على المنهاج التعليمي الأدبي في المدارس السورية، حيث يتشكل وعي الطالب بالأدب:
“سنتوقف عند الشهادة الأدبية التي لم يستفد منها، مع أنها أطنبت في تعداد مواهبه، ودلت على أنه كان أديباً منذ بدأ يتعلم القراءة، وأثبت موهبته بالكتابة على جريدة الحائط في المدرسة الابتدائية، وكانت مواضيع إنشاء عن جمال الطبيعة والحوادث الطريفة التي صادفته في الرحلات المدرسية”.
وتكتمل شخصيات الصناعة الأدبية بشخصية الناقد الذي ترسمه الروائي انتهازياً ومؤدلجاً:
“الناقد نعيم النعمان، لم يحصل على لقب كبير النقاد بسهولة، فاستولى عليه، وجهد في تسويقه بالمحافل الأدبية، بما قاله إلى الأدباء عن خدمات أغلبها مجاملات وابتسامات وخدمات نافذة ذات شأن. وأوعز إلى من يقدمونه في الندوات بيتلقيبه به. بعدما انتزع الاعتراف باختراقاته النقدية الأيديولوجية. إنجازه النقدي المؤسس لسمعته، كان بإدراج الأدباء في خانات: رجعي، عشائري، برجوازي صغير، بورجوازي وسط، بورجوازي عميل، إسلامي، تقدمي، يساري، طائفي”.
وضمن هذه الظروف الثقافية، فإن سؤال الإلتزام الأدبي يبدو كابوساً مخيفاً لأغلب الفنانين والأدباء، ما ستقارنه الروابة في الفصل الثاني مع مرحلة الربيع العربي: “إذا كان سيلتزم بقضية، فماذا تكون؟ قضايا الشعب لا يؤمن جانبها، قد يُعتقل. هل يحميه صديقه، وكمان برتبة ملازم أول؟ ماذا لو كانت القضية خطيرة؟ أقلقه لاسؤال ولم يبرح ذهنه، لم يحس بالخوف إلا لأن الإلتزام ملزم، ومحسوب على اليسار، كان الفيصل بين التقدمي والرجعي. ما أدراه بالحدود بينهما؟ إذا تعداها، قد يُداهم بيته ليلاً ويعتقله صديقه الملازم”.
دوماً ما تطرح الشخصيات الروائية النسائية أسئلة (حداد) عن دور المرأة وقضايا المرأة وتفاعلات هذه القضايا في الوسط الأدبي والثقافي، وهذا ما تخصص له الرواية الفصل الثامن من القسم الأول، والذي يحمل عنوان (امرأة على خط الثقافة) والذي يروي حكاية شخصية نسائية تنتقل في سيرتها الذاتية والنفسية والذهنية بين عدة مراحل: (الحسناء: عنوان الجرأة، الحسناء: الطور النسوي، اكتشاف الغموض الأنثوي، حرية الجسد، الشاعرة): ” ليست حسناء شاهين أي امرأة، ولا أية صحافية. إنها كاتبة مثقفة تميزت بالجرأة منذ نعومة أظفارها، ويقال من القماط، والأصح بالوراثة. ذهب بها قدرها كامرأة إلى القضايا النسوية، مع أن الاتحاد النسائي احتكرها، يعالجها على نحو بدا ألا مشكلة جديدة تواجه النهساء مع الرجال، حزب البعث قوننها على أنها قابلة للحل بالتدريج، لئلا تشكل صدمة للمجتمع، أي تحل نفسها بنفسها.
الأدباء والثورة بين حمل الهراوة والأسماء المستعارة
ينطلق القسم الثاني من الرواية مع أحداث الربيع العربي، فالغاية من التقسيم التاريخي للنص الروائي عي استعادة الأسشئلة السياية والاجتماعية والثقافية والأدبية ذاتها، لكن في ظل حدث سياسي مستجد. وهي المظاهرات الشعبية المطالبة للتغيير في سورية مع العام 2011، وما تلاها من قمع واعتقال وصراع أهلي وحرب وهجرة ومنفى، وذلك على امتداد رواياته التي كتبت خلال هذه الحقبة المذكورة: (السوريون الأعداء، 2014)، (الشاعر وجامع الهوامش، 2017)، (تفسير اللاشيء، 2020)، (يوم الحساب، 2021)، (جمهورية الظلام، 2023). وفي الرواية الحالية ينقسم الأدباء والكتاب من الشخصيات الروائية في ردود أفعالهم تجاه الحدث السياسي، فمنهم من رآها فرصة لممارسة والمشاركة في القمع: “ماذا تتوقع؟ دولة قوية، نظام جبار، جيش عقائدي، وأجهزة مخابرات، لا عمل لها إلا القمع، مجهزة بوشاة، ووسائل مراقبة وتنصت وتعذيب، وحزب لا يناضل بقدر ما يغلو على المنابر، جاءته الفرصة ليحمل الهروات والمسدسات ليثبت وجوده، ومخزون من عصابات الشبيحة، ستفرض نفوذها بالقتل والنهب”. وآخرون كانوا مؤمنين بالثورة لكن المرسومة في أذهانهم بحسب الثقافة السياسية السورية البعثية: “الفريد جسّام كان من المؤمنين بالثورة، لديه تاريخ حافل بين صفوفها ويعتد به، فقد ناضل منذ نعومة أظافره في منظمة الطلائع، ثم في منظمة الشبيبة، وكان ناشطاً في المسيرات والعراضات، وعلى رأس الراقصين بحلقات الدبكة في انتخابات الرئاسة ومجلس الشعب”. ويمثل الكاتب الشبح في الرواية تياراً ملتزماً بالثورة لكنه يواجه أسئلتها العملية:
“إذا تحرينا عن موقف الشبح، لن نعرف فيما اذا كان مثقفاً يسارياً ثورياً، أو يمينياً رجعياً، أو مجرد كاتب، تسري الرواية في دمه. في الحقيقة، نحن لا نعرف عنه شيئاً واضحاً، وإن كانت كتاباته تفصح عن موقف مسبق ضد النظام، كان ضده. وإلا لم يتنكر بشبح ويستعر أسماءً”.
وهكذا، بينما ظهرت موضوعات الثورة في مقالات الروائي الشبح الذي دافع عن الحق بالتظاهر، وطالب بوقف إطلاق النار كخطوة أولى لا بد منها، وأصر على سلمية الحراك الشعبي، وانحاز إلى الحل السياسي، ورفض الحل العسكري والأمني. وانتقد بشدة تجاوزات الجيش والأمن، وحذر من تراجعات ثورة كانت عالقة بين إرهاب النظام وحلفائه، وخطر الإرهابيين الدواعش. كان ضد الاحتلالات الأجنبية كلها. فإنه وبالمقابل، تبحث الشخصيات الأدبية الموالية عن حلول للموازنة بين الموقف الثوري ومزايا السلطة: “لا أمان، إلا في استغلال فرصة سانحة من أوقات الفراغ المتراكمة لديه، وكتابة رواية ملتبسة مع موقف مخاتل، تعتمد سردية للثورة ترضي النظام بإحالة هذه الحرب المدمرة ضد الشعب إلى ضد الإرهاب، وترضي في الوقت نفسه المعارضة التي تعاني من الجهاديين الذين كبدوهم أكبر الخسائر. طاب له التبجح بأنه من المثقفين الذين بقوا في الداخل، يعاني مع الشعب، لم يرض بالهجرة إلى بلد أوروبي، والاستجمام في المنتجعات السياحية، ومضاجعة الشقراوات، واتهم الآخرين بالهروب من البلد، وارتكابهم جريمة لا تقل عن الخيانة”. ولا ينس الروائي أن يخرج أيضاً على مستوى التخييل، حالة المثقفين الإنسانية، والغير متمايزة عن باقي فئات المجتمع: “كان المثقفون بمختلف أنواعهم مهمومين بما يقيم أودهم، فالجوع تسلل إلى حياتهم اليومية، وبات استمرار الحرب وسواسهم المضني. صحيح أنها تدور بعيداً عن لاعاصمة، لكنهم يعيشون انعكاساتها. سلاحها الغلاء وفقدان الوقود وانقطاع الكهرباء. كانوا مثل غيرهم ينتظمون في طوابير للحصول على حصتهم من الخبز والغاز والوقود”.
درب آلام وآمال الرواية السورية
يكتب فواز حداد في العام 2019، تحت عنوان (آلام الرواية السورية وآفاقها)، مميزاً بين نوعين من أنواع الرواية الممكنة في الحكاية السورية:
“سواء استمر النظام في السلطة، أم لم يستمر، فسوف تكون هناك روايتان لمآسي السنوات السبع؛ الرواية الأولى، هي رواية النظام الذي عمل منذ البدء على تصديرها، وقد تراوحت بين الحرب الكونية والحرب ضد الإرهاب، برر فيها برنامج التدمير الذي عمل عليه من دون انقطاع، فاستوحيت منه مسلسلاته التلفزيونية والسينمائية وروايات الموالين له، وهي تتهم المعارضة بأنها سبب الخراب، وتعتمد ثيمة رئيسة، هي مناعة النظام وبراءته، فيستثمر جرائمهم البشعة، ويحيل إليها نكبات النازحين واللاجئين، من دون إغفال بطولات مليشيات الشبيحة مع المجموعات الطائفية. تعتمد هذه الرواية في تسويقها على أجهزة الدعاية من جرائد ومجلات أدبية واتحاد للكتاب موال ومغلوب على أمره. أما الرواية الثانية، فهي رواية الربيع المخفق، أو الثورة المغدورة، أو رواية المنحازين ضد نظام شمولي شنّ الحرب على الشعب لمجرد مطالبته بالحرية، وهي بالضرورة رواية مضادة، تعمل على بناء سردية أخرى”.
وكأن الروائي في روايته الحالية قد سعى إلى تجسيد كلا النوعين الروائيين المحتملين في رواية الحكاية السورية والتي كتب عنهما شهادته منذ 7 سنوات. النوع الروائي المهادن للسلطة يتجسد في الرؤية الأدبية والثقافية لاتحاد الكتاب: “إذا تنطح أحدهم وثرثر بالحرية والديمقراطية، يبادر من دون تكليف إلى طرده شفاهياً من الاتحاد، فلا يعود أديباً، ما يسقط حقوقه في المعاش التقاعدي. كانت مقترحاتهم جاهزة بخصوص إعادة الاعتبار للثقافة، البلد على وشك استعادة عافيته، فالنظام مسيطر تماماً على العاصمة، والشعب آمن. لن يطول الوقت، بعد حملة التمشيط، وقطع دابر كل من يستشعر لديه غاية أرهابية، وتساقط من يتساقط، حتى يضم الاتحاد الكتاب نخبة النخبة من الأدباء، ما يشكل اتحاداً مفيداً على انسجام مع سورية المفيدة، ريثما يعاد تشكيله من جديد ومراعاة المزيد من الانسجام”. والنوع الروائي الثاني، إن لم يكن ظاهراً بمباشرة ضمن المتن الروائي، فإنه ومما لاشك فيه يتجسد في روايات الكاتب (فواز حداد) نفسه، باعتبارها محاولات الإجابة الأخلاقية على دور الأدب والفن في رواية السردية المضادة.
الخاتمة الروائية بين الأدب والحياة
إذا كنا سنضع بعد قليل نقطة النهاية على الورق، فإن الأحداث ستستمر على الأرض، وإن كان الأمل ضعيفاً بتغير ملموس نحو الأفضل، مع أن النهايات ليست نهايات، كما نعرف، طالما أقدارنا معلقة في حياة لا تكف عن الجريان. لكن لا بد من خاتمة على علاقة بالرواية.
من رواية (الروائي المريب)
تتراكب النهاية في رواية (الروائي المريب) على مستويين: المستوى الأول هي النهاية الأدبية لمسيرة النص الروائي ويأتي تحت عنوان (النهاية)، لكن المستوى الثاني يبرز مباشرة تحت عنوان (مهلاً، ليست النهاية) وفيه، يستدرك الكاتب العلاقة بين الحدث التاريخي السوري وبين نصه الروائي، فيكتب: “هذا الاستدراك، ليس لتسجيل خاتمة أخرى، وإنما البداية. اضطرني إليها، حدث لا أروع، ولا أعظم، لقد سقط نظام الاستبداد خلال احدى عشر يوماً. كتبت النهاية السابقة في المسودة الأولى قبل نحو عام ونصف، كتبتها من قاع اليأس والظلام، تجاري زمن البلد، المحكوم بالأبد الرئاسي، والآن ها أنا أمسك بالقلم، لن أحرم الشخصيات من نهاية سعيدة، مادام أنها من ذهني وأفكاري وآلامي وغربتي. إذا كانت الحياة ليست صناعة روائية، لكن الرواية عن الحياة”. وهكذا يمنح الكاتب شخصيات روايته مصائر نهائية سعيدة باعتباره يعيش في المرحلة الراهنة تجربة الأمل المتفائل، والذي بشر بها أيضاً في شهادته (آلام الرواية السورية وآفاقها، 2019)، متوقعاً مستقبلاً طليعياً للرواية السورية، بشرط أن تخضع فقط لحقائق الأدب:
“لا مغالاة في القول: إن الرواية السورية مرشحة للانفتاح على فضاء هائل من الحرية، لا قيود بوليسية، لا رقابة خارجية وداخلية، لا مواصفات شكلية تمليها رقابتان، لا تقية سياسية ودينية. رواية تتخفف من الرموز، ومن المسكوت عنه، ومن اللف والدوران، ومن الإيماء والتلميح، رواية تختط طريقها المستقبلي، ومجالها الأوسع من إدراك القيم الكبرى للحياة التي لولاها لما كانت عدالة ولا ديمقراطية ولا تعبير عن الرأي. ولقد حددت الطريق إليها تجربة الحرب والموت واللجوء والنزوح. فهي لا تنصاع إلا لحقائق الأدب”.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية