«نبض الخليج»
طوال سنوات الثورة السورية، تجنبت جميع الدول المتدخلة في الشأن السوري نشوب صراع مباشر إقليمي أو دولي فيما بينها. أما اليوم، فقد بات هذا الصراع أمرًا واقعًا، وأصبح انكفاء النظام الإيراني ونهايته هدفًا واقعيًا بعد سقوط مشروعه في سوريا.
وتشهد الساحة الإقليمية مقدمات صراع حاد بين قوتي الشر في المنطقة: إيران وإسرائيل، لتُتوَّج معادلة الصراع التي بدأت في أكتوبر 2023 بتقليم أذرع إيران في فلسطين ولبنان وسوريا، وصولًا إلى ضرورة منعها من امتلاك السلاح النووي، ودخولها النادي النووي العالمي بما يجعل منها قوة إقليمية تمتلك شروط الردع القصوى.
بعد عشرة أيام من الحرب الصاروخية الجوية بين مشروع الكيان الاستيطاني الإسرائيلي والهلال الفارسي، تدخل الولايات المتحدة الأميركية على الخط بضربات تُوصَف بالنوعية المركزة، استخدمت فيها قاذفاتها الاستراتيجية وأم قنابلها الفتاكة لضرب مولدات التخصيب النووي الإيراني. فهل ستتوقف عند هذه الحدود؟ أم ستتطور إلى اجتياحات برية أو تداخلات دولية متعددة الأطراف؟
الهدف المباشر من هذه الحرب هو منع إيران من الوصول إلى السلاح النووي، فإن نجحت الضربات العسكرية في ذلك، فقد تتوقف ريثما تدخل فرق الوكالة الدولية للتفتيش إلى المواقع السرية الإيرانية لتفكيك ترسانتها النووية. وبالضرورة، سنشهد جولات تفاوض قريبة بين الطرفين.
ولكن لدى إيران أوراق ضغط يمكن أن تستخدمها عسكريًا أو تفاوضيًا لتحسين نقاط قوتها والضغط المقابل، دون القبول بالاستسلام العسكري المباشر. فقد نشهد استخدام ورقة تهديد أمن الخليج العربي وإغلاق مضيق هرمز، وما ينتج عنه من تهديد لسوق الطاقة العالمي. وبما أن الولايات المتحدة وأوروبا تدركان هذا جيدًا، فستعملان أيضًا، إما على تيسير العملية التفاوضية، أو على تشديد الضربات العسكرية.
إن رؤية العلاقات الدولية على أنها علاقات عضوية إلى درجة “المصاهرة”، كما روجت لها مفاهيم الاشتراكية أو القومية التي سادت في القرن الماضي، أو كما في مفهوم “المؤامرة” الذي تقوده القوى الخفية العالمية كالماسونية على المنطقة.
الصراع على الشرق الأوسط هو عنوان الحدث اليوم، ولن يتوقف إلا وفق خريطة دولية لإعادة ترتيب القوى الفاعلة فيه، سواء تركيا أو دول الخليج العربي، إضافة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، وليس فقط، بل الصين الضالعة في معادلات الاقتصاد العالمي من خلال خط الحرير الدولي، ما يجعل المنطقة برمتها قيد احتمالات متعددة لا يمكن التنبؤ بطريقة نهايتها حتى اللحظة.
ثمة فرضية في هذا الصدد تتحدث عن أنه من غير الممكن التضحية بالنظام الإيراني كليًا، وهو الخادم المطواع للسياسات الأميركية والمستثمر فيها لاستنزاف الخليج العربي. وهنا، من المفيد العودة إلى مجريات الحدث الإيراني في المنطقة، الذي مثل تمدده وتحكمه في معظم دولها حتى عام 2025، وخاصة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وحتى في غزة في فلسطين. هذا التمدد أفصح عن رغبة إيرانية توسعية لما يسمى “الثورة الإسلامية الإيرانية”، الساعية إلى تصدير نموذجها “الثوروي” إلى دول الجوار والتحكم في قرارها السياسي والاقتصادي، تحت شعار تحرير القدس وفلسطين! في حين يُظهر السياق العام، بما لا يدع مجالًا للشك، أن إيران أسهمت في تدمير العديد من مدن المنطقة، ولم تسعَ للوصول إلى القدس، التي كانت على مقربة كيلومترات منها حتى ذلك التاريخ! وما تمددها في المنطقة سوى تَجلٍّ لحلم الإمبراطورية الفارسية، مستفيدة من التناقضات الدولية. فكان:
-
تمددها في العراق تحت العين الأميركية مباشرة، خاصة منذ عام 2003.
-
منذ 2013، ومع اتضاح تمدد الميليشيات الإيرانية في سوريا، عملت هذه الميليشيات على قتل الشعب السوري وتهجير حواضنه الداخلية، وإحداث تغيير ديموغرافي، وشيطنة العنف والعنف المضاد، بأبشع أشكال القتل الهمجي، وتأجيج الصراع الديني. وكانت النتيجة بتر الربيع العربي وقطعه في سوريا، وتحت العين الأميركية أيضًا.
-
في نهاية عام 2013 وما تلاه، كان جلّ اهتمام الولايات المتحدة منصبًا على التفاوض حول ملفَّي الكيميائي السوري والنووي الإيراني، وهو ما تمكنت إيران من إدارته بما يخدم تثبيت حضورها على الساحة السورية ميدانيًا.
-
منذ عام 2015، استفادت موسكو من الميليشيات الإيرانية في سوريا تحت غطائها الجوي، ما أتاح لإيران التمدد في غالبية الجغرافيا السورية.
-
في عام 2023، وبعد المد والجزر في التفاوض على الملف النووي الإيراني، قايضت إيران الولايات المتحدة على عشرة مليارات دولار من الحصار الاقتصادي، مقابل الإفراج عن خمسة صحافيين أميركيين. وهو ما يوضح طبيعة الماراثون التفاوضي الذي تقوده إيران للضغط على دول العالم، بعد اتفاق القدس عام 2018 بين موسكو وواشنطن وتل أبيب، الذي أقر بضرورة إخراج أو تحجيم الدور الإيراني في المنطقة.
-
لكن في يوم 8 كانون الأول 2024، ومع إعلان سقوط النظام السوري، أُعلن انتهاء المشروع الإيراني في سوريا، بعد أن تم تقليم أذرع إيران في المنطقة تدريجيًا، وانكفأت نسبيًا إلى الداخل الإيراني، وبات عليها الاستجابة لوقف مشروعها النووي، وهو ما لم تفعله، ويُعَد السبب الرئيسي لمجريات اليوم. في المقابل، بدأ مشروع الكيان الصهيوني بمحاولة التمدد والضغط على الحكومة السورية الوليدة لإعادة ترسيم اتفاقية 1974.
إن رؤية العلاقات الدولية على أنها علاقات عضوية إلى درجة “المصاهرة”، كما روجت لها مفاهيم الاشتراكية أو القومية التي سادت في القرن الماضي، أو كما في مفهوم “المؤامرة” الذي تقوده القوى الخفية العالمية كالماسونية على المنطقة، هي رؤية ضعيفة لفهم تبدلات المصالح الدولية. فالولايات المتحدة الأميركية، ومن خلفها إسرائيل، استفادت من الفورة الإيرانية في إفشال مشاريع الدول الوطنية في المنطقة، وإثارة النعرات الطائفية القاتلة. ولا يكفي إنهاء ملف إيران النووي لاستبعادها كمنافس، بل هو ضرورة لمنع فرض شروط قوة إقليمية على المنطقة. ما يظهر السياسة الدولية القائمة على إضعاف جميع دول المنطقة ومنع وجود قوى منافسة لإسرائيل فيها. وبالضرورة، تصبح قاعدة الاستفادة المؤقتة ثم الاستغناء الكلي عنوانًا للمصالح المتبدلة، التي تبيّن مدى اللعب بمصير شعوب المنطقة.
قد يشهد الشرق الأوسط ساحات متتابعة من الحروب الجزئية محدودة النتيجة، على الحدود السورية العراقية مثلًا، وقد يتطور إلى حرب إقليمية واسعة إذا تم تهديد أمن الخليج.
وإن كنا بصدد التركيز على مجريات المنطقة برمتها، وخاصة سوريا، فسنجد أن كلًا من إيران وإسرائيل كانا ولا يزالان مشروعين توسعيين لا يريدان لنا خيرًا. أما السيناريست العالمي الأميركي، والجيوبوليتيك الروسي والصيني، فهو الخلفية الدولية لإدارة هذا الصراع على الشرق الأوسط والاستثمار فيه. فيما على شعوب المنطقة، وخاصة في سوريا، أن تخرج من معادلات هذا الصراع العسكري، وتتخذ موقف الحياد منه جميعًا، وتتابع الاهتمام بالشأن السوري الداخلي، وبناء الدولة، والتمركز على الذات والهوية الوطنية. وأيضًا، الامتداد في العمق العربي، والبحث عن أقوى الصلات وأوثقها مع دول العالم العربي، وخاصة الخليج، والتوجه نحو تحقيق معادلات واتفاقات سلام مع دول الجوار جميعها، وتجنب الدخول في أي مواجهة عسكرية يمكن استثمارها في غير صالحها.
قد يشهد الشرق الأوسط ساحات متتابعة من الحروب الجزئية المحدودة النتيجة، على الحدود السورية العراقية مثلًا، وقد يتطور إلى حرب إقليمية واسعة إذا تم تهديد أمن الخليج. ولكن جميع هذه السيناريوهات لا تشير إلى نظرية المؤامرة الكاملة، أو الشراكة العضوية مقابل العداء الكلي، بقدر ما تشير إلى تبدّل الأدوار الوظيفية في طرق التحكم والسيطرة. والمؤكد اليوم أن الدور الوظيفي الإيراني أوشك على الانتهاء. وما على شعوب المنطقة، وخاصة في سوريا، إلا التمسك بمقومات المشروع الوطني، والخروج من التجاذبات الإقليمية والدولية، ودوائر الصراع الناشئة على أساسها، وأن يكون عنوان الحاضر والمستقبل هو: الاعتدال، والاستقرار، والسلام.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية