جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في التسعينيات، حين كانت الأغاني الراقصة تملأ الشاشات، خرج شاب من صيدا جنوبي لبنان بصوتٍ ناعم وحضورٍ خجول يلامس القلب قبل الأذن.
من “متى حبيبي متى” و”يا غايب” و”بيّاع القلوب” إلى “الحب القديم”، وحتى آخر أغنياته، لم يخذل هذا الفنّان ذوقنا يوماً، وقدّم كل ما تحتاج إليه قلوب الناس فعلاً: الإحساس الحقيقي.
اليوم، بعد سنواتٍ من الغياب والجدل حول قضيته التي لم تنتهِ بعد، يعود فضل شاكر ليذكّرنا أنّ الفنّ ليس في الإنتاج الضخم ولا في وهج الكاميرات، بل في الشعور، وأنّ الأغنية الجيّدة لا تحتاج أكثر من قلبٍ صادق وحنجرةٍ تعرف كيف تبكي “شوقاً وحنيناً”، نيابةً عن قلوب المتعبين وأرواحهم المنكسرة.
عاد فضل شاكر مجدّداً من خلف الظلال داخل مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين جنوبي لبنان، لا عبر بوابات شركات الإنتاج الضخمة ولا من خلال حملات الترويج، عاد فقط بصوته، رفقة ابنه، عاد ليواصل حمل قلوب الملايين، وتعليق ذكرياتهم على أغصان الشوق والحنين.
“كيفك ع فراقي؟”
“كيفك ع فراقي؟” ليست مجرّد عنوان لأغنية جديدة، بل سؤالٌ مباغت اخترق ذاكرة الملايين، أغنية بسؤال بسيط، لكنّه كان وَتراً يضرب قلب كلّ مَن أحب، ثم خُذل، ثم عاد يفتّش في الأغاني عن عزاء.
كلمات الأغنية التي كتبتها الشاعرة الأردنية سمر هنيدي، ولحّنها الموسيقي وائل الشرقاوي، جاءت كاعتراف ناعم بـ”الكذبة اللي صدقناها”، وبالعجز الصادق “ما اقدرت نسيت”.
أغنية يبدو أنّها صُوّرت بكاميرا موبايل وسُجّلت في استوديو متواضع، تحت ضوء خافت، لكنّ فضل شاكر غنّاها كما لو أنّه يعتلي أكبر مسارح الحنين، يحكي للناس -من خلال عذب كلماتها البسيطة- عن وجع الاشتياق بعد ألم الفراق، هامساً وهو يضع يده على كتف قلوبهم: “أشعر بكم”.
وما أضفى على الأغنية بُعداً إنسانياً، أنها جمعت بين (أب وابنه)، محمد فضل شاكر، الذي شارك والده الغناء، فشكّلت الأغنية لحظة مفعمة بالدفء، جمعت بين جيلين، لكن بصوتٍ واحد وإحساسٍ واحد، لتلاقي تفاعلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكّدةً أنّ الجمهور العربي لم ينسَ فضل، بل ظلّ ينتظره.
“ملك الرومانسية”
يتميّز فضل شاكر بما لا يُصنع ولا يُشترى: الإحساس، ولذلك يُلقّب بـ”ملك الرومانسية”، إنّه فنان لا يغنّي، بل يروي، يهمس، يتنفّس القصص التي لم نعرف كيف نقولها أو نعبّر عنها، في زمنٍ ازدحم بالصخب والكلمات المعلّبة، وكان وحده يأخذنا إلى “الجو الحلو”.
في أغانيه، لم نكن نسمع “يا غايب” فقط، بل كنّا نحن الغائبون، حين غنّى “لو على قلبي”، فهمنا أن الصوت قد يكون علاجاً للخذلان، وفي “الله أعلم” صدّقناه، لأننا شعرنا بما لا يُقال، قبل أن نتوه في حبٍ معلّق بين الحقيقة والوهم في “حبّك خيال”.
فضل شاكر والثورة السورية
لم يكن فضل شاكر يوماً بعيداً عن قضايا العالم العربي، ففي العام 2012، وقبيل اعتزاله المفاجئ للفن، أعلن بوضوح موقفه الداعم للثورة السورية، كان من أوائل الفنانين الذين كسروا جدار الصمت ووقفوا إلى جانب صرخات المظلومين في وجه المجازر التي ارتكبها نظام المخلوع بشار الأسد.
أنشد “سوف نبقى هنا” دعماً للسوريين، ثم جاءت أغنيتي “هي شامُنا – سنظل فيها صامدين”، و”الشام فتّح – دوري يا فرحة ع الحبايب دوري”، وذلك بعد أيامٍ من تحرير سوريا، في الثامن من شهر كانون الأول 2024.
“من النجومية إلى الظل”
في عام 2012، وفي ذروة مجده الفني، فاجأ فضل شاكر جمهوره بقرار الاعتزال، في وقتٍ كانت فيه أضواء المهرجانات ما تزال تلاحق صوته الدافئ، وأغانيه تتصدر المشهد العاطفي العربي، لكن ما لبثت الأخبار أن بدأت تتحدث عن تقرّبه من الشيخ أحمد الأسير في صيدا، وهو ما أدخله تلقائياً في قلب مشهد سياسي وأمني متوتر.
وشهد العام 2013 التحوّل الأكبر في مسيرته، عقب اندلاع “أحداث عبرا” الشهيرة، وهي مواجهات مسلّحة وقعت بين جماعة الشيخ الأسير والجيش اللبناني، اتُّهِم فضل شاكر بالتورّط فيها، رغم نفيه المتكرر، ومنذ ذلك الحين، أصبح مطلوباً للقضاء في لبنان وصدر بحقه عدد من الأحكام الغيابية، أبرزها السجن 15 عاماً، تلاها حكم آخر بالسجن 7 سنوات وغرامة مالية.
ورغم ثقل هذه الأحكام، لم يصمت فضل، بل صرّح عبر حساباته الرسمية، وظهر أكثر من مرة في مقابلات مصوّرة، دافع فيها عن نفسه، مؤكّداً أنّه لم يُشارك في أي أعمال عنف، وأن بعض تصريحاته جاءت تحت وطأة الانفعال والارتباك، مشدّداً على أنّه لا يريد سوى حياة هادئة، بعيدة عن السجال السياسي والمسلّح.
— فضل شاكر (@fadel_chaker) April 18, 2025
ما حدث للفنان فضل شاكر لم يكن عابراً، فقد انتقل خلال وقت قصير من قمم المهرجانات الكبرى، كـ”قرطاج” و”جرش”، إلى جدران المخيمات الضيّقة في عين الحلوة، كانت تحوّلاته أقسى من أن تُختصر بالمسيرة الفنية، إذ حملت في طيّاتها انكساراتٍ شخصية، وانعطافاتٍ حادة، وصراعاً مريراً بين ماضي النجم اللامع وحاضر الرجل المتواري.
واليوم، ما يزال فضل شاكر يواجه ملفاً قضائياً شائكاً، يقيّده بالحضور الغائب، حيث يعيش في الظل داخل مخيم عين الحلوة، بعيداً عن المسارح، قريباً من جمهوره عبر “السوشيال” فقط، ورغم كل ذلك، لم يفقد صوته قوّته، ولا انطفأ ضوءه الداخلي، ما زال يجهر ببراءته، ويطالب بأن يُعامل كمواطنٍ عاديّ، لا كعنوان سياسي أو عبء قضائي.
يؤكّد فضل شاكر -في كلّ ظهور- على أنّه ظُلم، وأنّ التهم التي وُجّهت إليه كانت مسيّسة وموجّهة لإسكاته وإنهاء فنّه، مشدّداً على أنّه لن ينكسر، وهو لم ينكسر فعلاً، بل عاد مجدّداً ليغنّي من قلب العزلة، حاملاً في صوته العذب، مقاومة ناعمة لسنوات التشويه والغياب.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية