«نبض الخليج»
في الثامن من ديسمبر 2024، عرفت سوريا لحظة مفصلية في تاريخها المعاصر، تمثلت في سقوط النظام الذي حكمها لعقود، إيذاناً بمرحلة جديدة من التحرر والانبعاث، ومع هذا الحدث، توافدت موجات من السوريين العائدين من المنافي، مدفوعين بحنينٍ دفين وذكرى بلدٍ يسكن الذاكرة أكثر مما يسكن الجغرافيا، لم تكن عودتهم مجرد فعل جسدي، بل طقساً نفسياً معقداً نابعاً من ما يسميه سيغموند فرويد بـ”العودة إلى مكامن الطفولة”، حيث يرتبط الوطن بالذكريات، وبالهويات العاطفية الأولى، إلا أن ما واجهوه في الداخل كان مختلفاً تماماً، لقد اصطدموا ببقايا وطن، بوجه مزقته الحرب، وطمست ملامحه السنون، فوجدوا أنفسهم أمام فراغٍ مرير، إذ لم يستطيعوا الهروب من المقارنة بين صورة محفورة في الذاكرة، ووطنٍ أضناه الخراب والدمار، وهذا ما استدعى الغوص في تحليل فلسفي- سيكولوجي لما يمكن أن نسميه بـ”النوستالوجيا المنهارة”.
إن النوستالوجيا، أو الحنين إلى الماضي، ليست مشاعر فردية فحسب، بل آلية نفسية معقدة تستعيد الماضي كوسيلة للتعامل مع الحاضر، لذلك يرى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricœur) أن “الذاكرة هي المعبر بين الهوية الفردية والتاريخ الجمعي”، فحين يعجز الحاضر عن تلبية التطلعات، يصبح الماضي ملجأً نفسياً. في المنفى، كانت سوريا التي يحملها المغتربون في ذاكرتهم نسخة مثالية، مشبعة بالعاطفة، مجزأة، ولكن مطهّرة من قبح الواقع، في هذه الصورة يجمع السوريون بين الاستذكار والبناء السيكولوجي التعويضي لترميم الفجوة الزمنية والعاطفية التي تفصلهم عنها.
إن الوجود الإنساني –كما أثبتت ذلك التجربة- لا يمكن أن يستقر، بل يتشكل عبر الترحال واللايقين، وفي هذا السياق، فإن العودة إلى الوطن بعد سنوات المنفى، ليست عودة إلى “مكان مألوف” بل إلى “غربة جديدة”.
عندما عاد كثير من السوريين بعد التحرير، اصطدموا بحقيقة مؤلمة، فما كان في الذاكرة لم يعد موجوداً على الأرض، فالبيوت التي كانت مأهولة بالمحبة والصوت والألفة، تهدمت أو تغيرت ملامحها؛ الشوارع التي اعتادوا السير فيها غيّرتها الحرب وعبث بها الخراب؛ البشر أنفسهم، أولئك الذين شكّلوا جزءاً من مشهد الحياة، تبدلوا، غيّرتهم الغربة أو الصدمة أو الغياب، تفكك المكان بكل تفاصيله الصغيرة، وبالتالي تفككت معه العلاقة العاطفية العميقة مع الوطن، تلك التي كانت تُبنى على الاستمرارية والاتساق بين الذاكرة والواقع، هذا الصدام بين “الذات المتخيلة” التي تشكلت عبر سنوات النفي والحنين، و”الواقع الخارجي” الذي لم يعُد يعكس تلك الصورة، أدَّي إلى ما يسميه علماء النفس بـ”اضطراب ما بعد النوستالوجيا”، وهو حالة من التوتر النفسي والحزن الناتج عن تآكل الرابط بين الماضي والراهن، ويقول كارل يونغ (Carl Jung): “الصدمة لا تنبع من الحدث ذاته، بل من الفرق بين الصورة المتوقعة والحقيقة القائمة”، وهكذا، يصبح الوطن الجديد كائناً غريباً، لا يحمل ملامح الصورة المحفوظة في المخيال العاطفي للمغترب، مما يُحدث شرخاً داخلياً بين ما كان مأمولاً وما هو قائم فعلاً.
وقد لخّص أحد العائدين تجربته بالقول: “كنت أظن أنني بمجرد أن أرى باب بيتنا سأعود كما كنت، ولكن حين وقفت أمام الركام، شعرت أن الذكرى التي كانت تسندني في الغربة قد ماتت هناك، تحت الأنقاض، عدت لأرى سوريا التي أحببتها، فوجدت نفسي غريباً في مسرح بلا شخوص”، هذه الكلمات تلخّص ما يشعر به كثير من العائدين الذين وجدوا أن الوطن كما في الذاكرة لم يعد موجوداً، وأن الحنين لم يكن كافياً لاسترداد ما فُقد.
إن الوجود الإنساني –كما أثبتت ذلك التجربة- لا يمكن أن يستقر، بل يتشكل عبر الترحال واللايقين، وفي هذا السياق، فإن العودة إلى الوطن بعد سنوات المنفى، ليست عودة إلى “مكان مألوف” بل إلى “غربة جديدة”، لأن الزمان قد تحرك، وهذا الانهيار في النوستالوجيا قد ينتج نوعاً من الفراغ الوجودي، لكن من الممكن أن يتحول عند بعضهم إلى نقطة بداية لإعادة تشكيل العلاقة مع الوطن – لا بوصفه “صورة مثالية من الماضي”، إنما كواقع جديد يتطلب الإدراك والبناء والتفاوض.
تجربة العودة إلى سوريا بعد تحريرها كشفت عن هشاشة العلاقة بين الذاكرة والمكان، وعن القوة النفسية للنوستالوجيا بوصفها أداة للبقاء.
في علم النفس الوجودي، يُنظر إلى التجربة العاطفية كمصدر للوعي وتشكيل المعنى، إذ لا تُفهم المشاعر باعتبارها انعكاساً لحالة عابرة، المشاعر هنا هي لحظات تأسيسية للكينونة، والفيلسوف جان بول سارتر كان يؤمن بأن “الإنسان لا يُعرف من خلال ماضيه، بل من خلال ما يصنعه من ماضيه”، أي إن الذات هي مشروع مفتوح لإعادة التكوين، لذا فإن الصدمة التي تعرض لها السوريون العائدون ليست نكسة نفسية أو خيبة وجدانية، إذ يمكن أن نعدها إمكانية وجودية لإعادة كتابة العلاقة مع الأرض والذات والمجتمع، فالنوستالوجيا التي انهارت أمام الواقع لا تمثّل بالضرورة نهاية الرحلة النفسية، بل تشكّل لحظة وعي جذرية توكِّد أن الماضي لا يعود، وأن الذاكرة ليست خريطة جاهزة تقودنا إلى مكان محدد، فالذاكرة تأويل حيّ يتغير بتغير الأفق والزمن، ويمكن من هذا المنطلق، تطوير نوع جديد من الحنين، لا يقوم على الاسترجاع الساكن، بل على الإحياء النشط للممكنات الكامنة في الحاضر، وإعادة تشكيل الوطن كفكرة حية لا كمتحف شعوري مغلق.
ختاماً، تجربة العودة إلى سوريا بعد تحريرها كشفت عن هشاشة العلاقة بين الذاكرة والمكان، وعن القوة النفسية للنوستالوجيا بوصفها أداة للبقاء، فالوطن لا يُختصر في شارع أو بيت، بل هو شعور متحرك، وهوية في حالة بناء دائم، والنوستالوجيا ليست وفاءً للماضي بقدر ما هي دعوة لصناعة مستقبل يليق بما كنا نأمله في ذاكرتنا، وبينما ينهار الحنين، ربما يُعاد تشكيل الوطن كما ينبغي أن يكون، وكما يستحق أن يكون.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية