جدول المحتويات
«نبض الخليج»
يُمثل إعلان تأسيس الشبكة العربية لاستقلال القضاء في 10 تموز/يوليو 2025 تحولًا نوعيًّا في مسار المبادرات الإقليمية والتي يمكن أن تسهم في دعم التحول السياسي في سوريا نحو نظامٍ يحترم استقلالية القضاء، بعد عقود من استغلاله كأداة بيد نظام الأسد لترسيخ سلطته.
وتأتي هذه المبادرة في وقت تعاني فيه المؤسسات القضائية السورية من أزمات حادة في الشرعية والفعالية، ما يجعل من تأسيس إطار للتعاون القضائي الإقليمي خطوة بالغة الأهمية لمعالجة هذا الانهيار البنيوي العميق الذي خلفته الهيمنة السلطوية.
في هذا السياق، تكتسب مشاركة سوريا في الشبكة، من خلال عضوية الشبكة السورية لحقوق الإنسان، طابعًا خاصًا. فالبنية التوثيقية الغنية للشبكة السورية، والتي تشمل ملايين الحوادث وأكثر من 1800 تقرير منذ عام 2011، تمنح الشبكة العربية قاعدة بيانات مرجعية لفهم التحديات القضائية في سوريا، كما تُمكنها من بلورة استجابات تستند إلى واقع ملموس. ومن المؤمّل أن تسهم هذه المعطيات في جعل سوريا ليس فقط مستفيدًا من الخبرات الإقليمية، بل أيضًا مساهمًا في إثرائها عبر تقديم خبرات ميدانية حيوية في سياق إعادة بناء نظام قضائي ما بعد النزاع.
يهدف هذا المقال إلى تحليل الدور الذي يمكن أن تضطلع به الشبكة العربية لاستقلال القضاء كآلية داعمة في مسار التحول السياسي في سوريا، من خلال توفير الخبرة الفنية والدعم المؤسسي المستدام الضروري لتجاوز إرث الانهيار القضائي المتراكم.
معالجة نقاط الضعف من خلال التعاون القضائي الإقليمي
تُعد أزمة استقلال القضاء في سوريا أحد أبرز العوائق أمام ترسيخ سيادة القانون في مرحلة ما بعد الأسد. فقد أدّى الاستخدام السلطوي للقضاء على مدى عقود إلى تحويله من سلطة للفصل العادل في النزاعات إلى أداة لخدمة بقاء النظام، مما أفضى إلى ما يُعرف اصطلاحًا بـ “فراغ الشرعية” الذي لا يمكن ملؤه من خلال إصلاحات تقنية فقط. هذا التآكل المؤسسي يُترجم في الواقع السوري بعزوف المواطنين عن اللجوء إلى القضاء، أو بتنامي الميل إلى “أخذ الحق باليد”، بما يشير إلى انهيار الثقة العامة في الجهاز القضائي.
وفي هذا الإطار، يُشكّل الإعلان الدستوري السوري، الذي وُضع لتأطير المرحلة الانتقالية، تكريسًا لهيمنة السلطة التنفيذية بدلًا من أن يُقيدها. ويُظهر تقييم منظمة هيومن رايتس ووتش أن الإعلان يمنح الرئيس صلاحيات واسعة تشمل التعيينات القضائية والتشريعية دون وجود ضوابط رقابية فعالة، ما يعكس خللًا في بنية الانتقال السياسي في البلاد. فغياب النصوص الدستورية الصريحة التي تُكرّس الفصل بين السلطات وتؤمن ضمانات فعلية لاستقلال القضاء يجعل هذا الإعلان بمثابة تفويضٍ قانوني لاستمرار تدخل السلطة التنفيذية.
لقد منح الإعلان الدستوري الرئيس سلطة تشكيل المحكمة الدستورية العليا، وتجاهل إنشاء مجلس قضائي مستقل، كما لم يُحدّد معايير واضحة للتعيين والعزل القضائي، وأغفل آليات الحماية من الانتقام السياسي. وإلى جانب ذلك، فإن انعدام الضمانات الدستورية فيما يخص الحيازة القضائية، واستقلالية الميزانية، والقرارات الإدارية، يجعل القضاة في موقع هشّ، خاضعين لضغوط السلطة التنفيذية.
إن تدهور البنية التحتية للتعليم القانوني في سوريا يجعل من عملية بناء القدرات على النمط التقليدي أمرًا صعبًا.
بناء القدرات القضائية المستدامة: معالجة أزمة رأس المال البشري
تُعد أزمة رأس المال البشري القضائي في سوريا من أكثر التحديات إلحاحًا في مسار إعادة بناء النظام القانوني الوطني. ويتجلى “النقص الحاد في القضاة المؤهلين” كنتيجة لمجموعة من العوامل المركّبة، من أبرزها: مغادرة عدد كبير من القضاة البلاد خلال النزاع المسلح وانخراطهم في منظمات المجتمع المدني أو هيئات سياسية، والتطهير المنهجي الذي طال القضاة ذوي التوجهات المستقلة خلال حكم الأسد، فضلًا عن التدهور المزمن في مؤسسات التعليم القانوني تحت مظلة الحكم الاستبدادي. ولا يقتصر هذا العجز على البعد الكمي، بل يمتد إلى نوعية الكوادر القضائية المتبقية، التي غالبًا ما تفتقر إلى التدريب على المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وآليات العدالة الانتقالية، والممارسات القضائية المنسجمة مع النظام الديمقراطي.
وتُسلّط مسألة إعادة إدماج القضاة المنشقين خلال فترة النظام، رغم رمزيتها، الضوء على تعقيدات إعادة تشكيل البنية القضائية البشرية. فلا بد أن تشمل عملية الإدماج إعادة تأهيل تتجاوز البعد التقني القانوني إلى معالجة الجوانب النفسية والاجتماعية المرتبطة بالعودة، بما في ذلك احتمال نشوء توترات مع القضاة الذين استمروا في العمل ضمن منظومة النظام.
وبعيدًا عن التحديات الفردية، تبرز الحاجة الملحة إلى بناء قنوات مؤسسية مستدامة للتوظيف والتدريب القضائي. إن تدهور البنية التحتية للتعليم القانوني في سوريا يجعل من عملية بناء القدرات على النمط التقليدي أمرًا صعبًا. فكليات الحقوق ما زالت تعمل بمناهج تعليمية قديمة، وتعاني من شح في الموارد التدريبية العملية.
في هذا الإطار، يتجاوز دور الشبكة العربية لاستقلال القضاء حدود توفير التدريب المباشر، ليشمل تبني استراتيجيات متكاملة لبناء القدرات. فمن خلال برامج تبادل منتظمة مع هيئات قضائية إقليمية، يمكن للقضاة السوريين اكتساب خبرة عملية في أنظمة قانونية أكثر تطورًا، وبناء شبكات مهنية مستمرة توفر لهم الدعم المعرفي والمؤسسي على المدى الطويل. ويجب أن تُصمم هذه البرامج بعناية لضمان ملاءمتها للاحتياجات الخاصة بالسياق السوري، مع الابتعاد عن فرض نماذج قانونية أجنبية غير قابلة للتكيّف. وتُعد ترتيبات الإرشاد المهني التي تتيح للقضاة السوريين الارتباط بنظرائهم من القضاة العرب ذوي الخبرة خطوة بالغة الأهمية نحو بناء علاقات مؤسسية دائمة تُسهّل نقل المعرفة خارج الأطر التدريبية الرسمية.
آليات فعّالة لنقل المعرفة القضائية
يتطلّب تكييف أفضل الممارسات الإقليمية في العدالة الانتقالية مع الخصوصية السورية وجود آليات ترجمة قانونية ومؤسسية دقيقة، تراعي التكوين التاريخي والاجتماعي والسياسي الفريد لسوريا. فرغم ما تقدمه تجارب الدول العربية الأخرى من رؤى تحليلية غنية، إلا أن استنساخ هذه النماذج بصورة آلية قد يؤدي إلى إنتاج مؤسسات شكلية غير قادرة على التفاعل مع الواقع السوري. ويكمن التحدي في استنباط المبادئ القابلة للتعميم، وتكييفها بصورة تحافظ على مشروعيتها المحلية وفعاليتها التطبيقية.
وتوفر التجارب الإقليمية – كهيئة الحقيقة والمصالحة في تونس، وهيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب، وترتيبات ما بعد الحرب الأهلية في لبنان – دروسًا قيمة حول الموازنة الدقيقة بين المساءلة والاستقرار، وهي مسألة مركزية في سياق ما بعد النزاع السوري. وتُشكّل الشبكة العربية منصة جامعة لهذه التجارب المتنوعة، مما يمكّن القضاة السوريين من دراسة النجاحات والإخفاقات ضمن بيئات قانونية وسياسية مشابهة.
ولا بد أن تتناول عملية نقل المعرفة القضائية أبعادًا متداخلة في آنٍ واحد، تشمل: الجوانب الإجرائية القانونية، مبادئ التصميم المؤسسي، والاقتصاد السياسي لعمليات الإصلاح. وفي هذا السياق، فإن برامج الدعم الفني التي تقتصر على نقل الآليات القانونية الشكلية تفشل غالبًا في التعامل مع القضايا الأعمق، المتعلقة بتحول الثقافة والممارسة القضائية. ويتطلب نقل المعرفة المجدي بيئات تطبيقية غامرة يُشارك فيها القضاة السوريون بصورة نشطة في عمليات العدالة الانتقالية، بما يُمكّنهم من فهم الإجراءات الرسمية، وكذلك إدراك المعايير غير الرسمية والممارسات الواقعية التي تضمن فعالية هذه العمليات.
إن السياق السوري يفرض تحديات خاصة يجب مراعاتها في تصميم أدوات نقل المعرفة، من أبرزها: الحاجة إلى موارد تعليمية باللغة العربية متوافقة مع التقاليد القانونية المحلية، وتطوير مناهج تدريبية تأخذ بعين الاعتبار الديناميكيات الطائفية المعقدة في البلاد. وتعتمد فعالية الشبكة العربية لاستقلال القضاء في نهاية المطاف على مدى قدرتها على تيسير حوار مهني ومؤسسي حقيقي بين تقاليد قانونية متعددة داخل الإقليم العربي.
إن استمرار تدخل السلطة التنفيذية يُظهر بجلاء مدى تغلغل الممارسات المركزية، والتي لا يمكن تفكيكها بالتعاون الإقليمي وحده.
الدور المحوري للشبكة السورية لحقوق الإنسان
إن موقع الشبكة السورية لحقوق الإنسان كعضو مؤسس في الشبكة العربية لاستقلال القضاء يمكنها من الربط بين التوثيق الميداني وصناعة السياسات التنفيذية. وتُشكّل قاعدة البيانات الواسعة التي تحتفظ بها الشبكة – والتي تشمل ملايين الحوادث وقرابة 1800 تقرير وبيان منذ عام 2011 – ركيزة تجريبية لإصلاح قضائي قائم على الأدلة.
ولا تقتصر مساهمة الشبكة السورية لحقوق الإنسان على توفير المعلومات، بل تمتد إلى تقديم أطر تحليلية لفهم أنماط الانتهاكات، وسياق الانتقال السياسي، ومتطلبات العدالة الانتقالية في سوريا. وبفضل هذه المعرفة التراكمية، تُسهم الشبكة السورية لحقوق الإنسان في ترجمة المبادئ الكلية للعدالة الانتقالية إلى آليات عملية تراعي الخصوصيات السورية، مع ضمان مشاركة هذه الخبرات في النقاشات الإقليمية والدولية الأوسع.
ويُقدّم منظور الشبكة السورية لحقوق الإنسان المرتكز على المجتمع المدني رؤى حيوية كثيرًا ما يتم إغفالها في الإصلاحات القضائية التي تتمحور حول الدولة. إن العلاقة المباشرة التي تربط الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالضحايا والمجتمعات المحلية تُوفّر نافذة على تطلعات المواطنين ومخاوفهم وأولوياتهم، وهي عناصر جوهرية لتوجيه جهود إعادة بناء النظام القضائي. وتُعد هذه المعرفة المجتمعية ذات قيمة خاصة في تصميم مقاربات تضع الضحايا في صميم العملية القضائية، وتوازن بين الصياغات القانونية الرسمية وضرورات التعافي المجتمعي.
منصة لترسيخ دعائم الحكم الديمقراطي
يتضح من التحليل أعلاه أن الشبكة العربية لاستقلال القضاء تتجاوز كونها مجرد إطار مؤسسي للتعاون الفني، لتغدو أداة استراتيجية تدخل في لحظة تاريخية مفصلية. فمن خلال معالجتها لأوجه القصور ومحدودية القدرات المحلية، تطرح الشبكة مسارًا نحو تحويل القضاء السوري من أداة للهيمنة إلى ركيزة من ركائز الحكم التعددي.
غير أن تحقيق هذا التحول لا يمكن أن يعتمد فقط على بنية الشبكة ذاتها، بل يتوقف على قدرتها على التنقل ضمن المعادلات السياسية المعقدة، مع الحفاظ في الوقت ذاته على مصداقيتها المهنية وأصالتها الإقليمية. ويجب ألا يُعمي الاعتراف بقدرات الشبكة عن إدراك حدودها الموضوعية في التصدي لهياكل السلطة المتجذّرة، إذ إن استمرار تدخل السلطة التنفيذية يُظهر بجلاء مدى تغلغل الممارسات المركزية، والتي لا يمكن تفكيكها بالتعاون الإقليمي وحده.
إن فعالية الشبكة ترتبط ارتباطًا وثيقًا باستعداد الجهات السورية الفاعلة سياسيًا للقبول بالمراقبة الإقليمية وتنفيذ التوصيات الإصلاحية. وفي غياب هذا الالتزام، تبقى قدرة الشبكة محصورة في الجانب الفني، دون أن تتمكن من التأثير الفعلي في مسار الانتقال السياسي.
بناء القدرة المؤسسية لمواجهة التراجع الديمقراطي
إن دور الشبكة لا يقتصر على تقديم الدعم الفني في المدى القريب، بل يشمل أيضًا المساهمة في بناء قدرة المؤسسات القضائية السورية على الصمود طويل الأمد. فتكامل هذه المؤسسات ضمن شبكات إقليمية للمساءلة يُسهم في خلق آليات ردع تجعل من العودة إلى الاستبداد خيارًا مكلفًا ومكشوفًا سياسيًّا. كما أن بناء شبكات مهنية تربط القضاة السوريين بنظرائهم الإقليميين يُنتج دوائر دعم قضائي عابرة للحدود الوطنية، قائمة على معايير عالمية مهنية مشتركة، وأنظمة دعم متبادل تُشكّل سدودًا منيعة ضد الانحدار نحو السلطوية المعزولة.
ويعمل هذا البعد الوقائي على عدة مستويات متكاملة، منها: تقييمات الأقران الدورية التي تُراقب المؤشرات المبكرة للهيمنة القضائية، برامج الدعم الفني التي تُعزّز الممارسات الديمقراطية باستمرار، وآليات الضغط الدبلوماسي الإقليمي لمواجهة التراجع المؤسسي. وتُوفّر أنشطة الرصد والتوثيق التي تضطلع بها الشبكة سجلًا مؤسسيًّا غنيًّا يمكّن من تطوير استجابات قائمة على أدلة دقيقة لمواجهة التحديات الطارئة.
تأثير إقليمي متبادل: تتجاوز تداعيات تعزيز استقلال القضاء في سوريا حدودها الوطنية، لتُغني مشروع الإصلاح القضائي في العالم العربي برمته. وتُعد تجربة سوريا في الانتقال من هيمنة سلطوية أسدية إلى نظام يسعى لاستقلال القضاء فرصة تحليلية ثرية لدول عربية تمر بمراحل تحول مماثلة. كما أن تفاعل الشبكة مع التعقيدات التي تميز السياق السوري – من الانقسامات الطائفية، وانهيار المؤسسات، إلى تضارب التأثيرات الخارجية – يُنتج معرفة قابلة للتطبيق في بيئات أخرى متأثرة بالنزاع.
ومع تطور التجربة القضائية السورية تدريجيًّا، يمكن لسوريا أن تتحول من متلقٍّ للمعرفة إلى مصدر لها، مساهمةً في إثراء المخزون المعرفي الإقليمي في مجال بناء أنظمة قضائية بعد النزاع.
خاتمة:
أفق العدالة واستعادة الثقة: في المحصلة، تُجسد الشبكة العربية لاستقلال القضاء عاملاً محفزًا – وإن لم يكن كافيًا بذاته – لإحداث تحول مهم في البنية القضائية السورية. فمساهمتها في سد الفجوات الفنية، وتعزيز الشرعية الإقليمية، وتوفير الدعم المستمر، تُشكّل دعائم لا يمكن لأي جهد محلي أن يُعوّضها منفردًا. وتضع آليات الشبكة المتقدمة لنقل المعرفة، وبناء القدرات، والرصد المؤسسي، أسسًا لاستقلال قضائي مستدام.
لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب ما هو أكثر من دعم تقني: يتطلب تحولات ثقافية عميقة في الوعي السياسي، وإعادة صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وهي تحولات قد يُساعد الدعم الخارجي على تسريعها، لكنه لا يستطيع فرضها.
وسيقاس النجاح في إعادة بناء القضاء السوري ليس فقط بإنشاء مؤسسات جديدة، بل بمدى قدرتها على إرساء الثقة العامة: هل يشعر المواطنون بأن المحاكم قادرة على حمايتهم؟ هل يتمتع القضاة بالقدرة على الحكم ضد الدولة دون خوف من العقاب؟ هل تحل المساءلة القانونية محل العنف السياسي كأداة لحسم النزاعات؟
تُوفر الشبكة العربية لاستقلال القضاء هيكل لدعم هذا التحول، لكن نجاح المهمة يرتبط بتبنٍّ مجتمعي حقيقي لفكرة استقلال القضاء كشرط لازم لأي نظام ديمقراطي مستقر. وفي هذا النضال، يُمثل الدعم الإقليمي مساندة فنية، ويُجسد أيضًا أملًا ملموسًا في أن ينحني مسار العدالة السورية، رغم كل الصعوبات، باتجاه الاستقلال والمساءلة وسيادة القانون.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية