جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في ريف إدلب الجنوبي، الممتد بين مدينتي سراقب ومعرة النعمان وصولاً إلى جبل الزاوية وريف المعرة الشرقي، بدأت ملامح عودة الأهالي إلى مدنهم وقراهم بعد سقوط نظام الأسد في نهاية عام 2024. غير أن هذه العودة تصطدم بواقع قاسٍ تركته سنوات الحرب، إذ خلّفت ميليشيات النظام المخلوع منذ عام 2019 مدناً وقرى منكوبة نُهبت بالكامل وجُرّدت من أبسط مقومات الحياة، وعلى رأسها الكهرباء التي غابت تماماً مع تدمير الأعمدة وشبكات البنية التحتية. هكذا يجد العائدون أنفسهم أمام معركة جديدة لا تقل قسوة عن الحرب نفسها: معركة إعادة الحياة إلى أرض أنهكها الخراب.
واقع الخدمات في ريف إدلب الجنوبي
رغم حجم الدمار الهائل وغياب الخدمات بشكل شبه كامل في ريف إدلب الجنوبي، يفضل كثير من الأهالي العودة إلى قراهم ومدنهم المدمرة على البقاء في مخيمات النزوح. عبد الباسط الشوارغي، رئيس بلدية وعضو المجلس المحلي في بلدة معرشمشة بريف معرة النعمان الشرقي، يوضح لموقع تلفزيون سوريا أبرز التحديات الخدمية التي تواجه العائدين في ظل الانهيار شبه الكامل للبنية التحتية. ويؤكد أن نسبة الدمار في ريف معرة النعمان الشرقي تجاوزت 70 بالمئة وشملت أكثر من 50 قرية وبلدة.
يقول الشوارغي: “معركتنا اليوم ليست فقط في تأمين بيوت للناس، بل في غياب البنى التحتية بالكامل. محطات ضخ المياه وشبكاتها مدمرة، شبكات الصرف الصحي معطلة، الكهرباء غائبة بشكل كامل بعد أن دمّر النظام أعمدتها ومحطاتها، وحتى المنازل والأراضي الزراعية تعرضت للهدم والاقتلاع. هذا الوضع جعل عودة الأهالي صعبة للغاية وزاد من الأعباء الاقتصادية والمعيشية على الجميع”.
أما عن الكهرباء، فيشير الشوارغي إلى أن ريف إدلب الجنوبي بأكمله لا يملك محطة كهربائية واحدة ولا عموداً ولا حتى شبكة أسلاك، إذ جرى تفكيكها وسرقتها من قبل ميليشيات الأسد خلال سنوات التهجير. ويضيف أن الأهالي يعتمدون حالياً على ألواح الطاقة الشمسية وبطاريات بدائية لا تكفي سوى لتأمين أبسط الاحتياجات المنزلية.
ويتابع: “الخدمات اليوم هي العائق الأكبر أمام استقرار الناس. من دون مياه نظيفة، وكهرباء مستمرة، وصرف صحي سليم، لا يمكن للحياة أن تعود بشكل طبيعي. كما أن توقف المعامل والورش الصغيرة حرم المواطنين من فرص العمل وترك كثيرين بلا مصدر دخل”.
ويختم الشوارغي حديثه بالتأكيد على أن “الأهالي بحاجة إلى دعم حقيقي في إعادة الإعمار وتنفيذ المشاريع الخدمية الأساسية وإعادة تشغيل المرافق الحيوية والورش الإنتاجية. هذه الخطوات ليست مجرد تحسين للخدمات، بل شرط أساسي ليتمكن الناس من البقاء في قراهم وبناء مستقبل جديد بعد سنوات من النزوح والمعاناة”.
تأثير العتمة على الحياة اليومية
مع غياب الكهرباء، تغرق مدن وقرى ريف إدلب الجنوبي في ظلام دامس مع حلول الليل، ما يجعلها أشبه بمدن أشباح. براءة رضوان، من أهالي سراقب، تصف لموقع تلفزيون سوريا حال مدينتها قائلة: “المدينة اليوم شبه مدمّرة بالكامل، لا كهرباء ولا خدمات أساسية، وهذا أكبر عائق أمام عودة الناس. الكهرباء ليست مجرد إنارة، بل أساس لكل شيء: للمنازل والزراعة والمياه وحتى الإحساس بالأمان. أراضينا سُرقت ومضخات المياه خُرّبت، لذلك العودة تصطدم بواقع قاسٍ لا يترك سوى الحيرة والخوف من الليل الموحش وسط الخراب”.
وتضيف رضوان: “الليل في سراقب يختلف عن أي مكان آخر، حين تغيب الشمس تختفي المدينة بأكملها، لا أصوات ولا ضوء في الشوارع، فقط صمت وظلام يعيدان إلينا شعور الحرب والتهجير”.
وتؤكد شيماء هلال، طالبة جامعية من أبناء سراقب ومن ذوي الهمم، في حديثها لموقع تلفزيون سوريا: “انقطاع الكهرباء هو أكبر ما يجعل حياتي في سراقب شبه مشلولة. لا أستطيع الاعتماد على الأجهزة الطبية التي أحتاجها أحياناً، ولا على الإضاءة لمتابعة دراستي أو التنقل بأمان داخل البيت وخارجه. غياب الكهرباء لا يعني فقط الظلام، بل يعني العزلة، وصعوبة متابعة الجامعة، وحتى القيام بأبسط المهام اليومية. بالنسبة لي، الكهرباء ليست رفاهية، بل حق أساسي يخفف عني ثقل الحياة ويمنحني القدرة على الاستمرار”.
التأثير الاقتصادي
لا تقف معاناة الكهرباء عند حدود الأهالي، بل تمتد لتطال الصناعيين العائدين إلى مدنهم في محاولة لتحريك عجلة الاقتصاد من جديد. أبو يوسف، من أبناء بلدة معرشورين في ريف معرة النعمان الشرقي، البلدة التي عُرفت منذ عقود بمدينة التجارة والصناعة، يروي لموقع تلفزيون سوريا ملامح العودة بعد سنوات النزوح. الرجل الذي كان يملك معملاً لصناعة السجاد والحصر البلاستيكية يرى أن انقطاع الكهرباء هو “أكبر عائق أمام استعادة الحياة الطبيعية”، واصفاً إياها بأنها “شريان العمل والإنتاج”.
يقول أبو يوسف: “الكهرباء أهم عامل لتشغيل معاملنا، ومن دونها لا يمكن أن تدور الماكينات ولا يمكن أن يعود الناس إلى أعمالهم. كانت بلدتنا معروفة بمعاملها وأسواقها النشطة، واليوم تحولت إلى أطلال، لا تُسمع فيها أصوات سوى الريح أو صدى خطوات قليلة”.
ويضيف: “حين يحل الليل، يغرق المكان في ظلام دامس، لا ضوء في الشوارع ولا حركة في الأسواق التي كانت لا تنام. هذا الظلام يعيدنا بالذاكرة إلى أيام قصف النظام البائد، حين كنا نختبئ من الطائرات، وإلى سنوات حكمه الجبري التي همّشت إدلب وحرمتها من أبسط مقومات الحياة”.
ويختم أبو يوسف حديثه بالقول: “نحن نعود رغم كل شيء، لكن العودة بلا كهرباء ولا خدمات تشبه البقاء في مخيم آخر، فقط بوجه مختلف. نحن نريد أن نعيش بكرامة، أن نعيد تشغيل معاملنا ونزرع أرضنا، لكن كيف نبدأ والليل ظلام، والمدينة صامتة كأنها مقبرة؟”.
أما أبو علي الرشيد، مسنّ ومدير مدرسة من ريف إدلب الجنوبي، فيرى أن عودة الحياة إلى القرى لا يمكن أن تكتمل من دون توفير المقومات الأساسية وعلى رأسها الكهرباء. فإلى جانب حاجته كمدير مدرسة إلى بيئة تعليمية مستقرة، يواجه تحدياً اقتصادياً في إعادة تأهيل أرضه الزراعية البعلية، بينما بقيت أرضه الأخرى شبه خاوية بعد أن قُطعت أشجارها في فترة سيطرة النظام المخلوع. ويؤكد أن غياب الكهرباء يحرم المزارعين من تشغيل مضخات المياه وإحياء زراعاتهم، وهو ما يجعل الحديث عن العودة ناقصاً ما لم تُحل هذه المعضلة الجوهرية.
معاناة الأطفال
لم يقتصر تأثير التهجير القسري على الأهالي فحسب، بل امتد ليطال أطفالهم الصغار الذين وُلدوا في المخيمات. عبد الباسط دعيمس، ناشط من أبناء معرشورين، يؤكد لموقع تلفزيون سوريا أن العودة إلى البلدة “أشبه بالعودة إلى أطلال تبحث عن حياة”، موضحاً أن المنازل مهدمة، والطرقات صامتة، والمصانع تحولت إلى هياكل حديدية. ويضيف: “الأهالي لم يعودوا لأن الظروف أفضل، بل لأن المخيمات أنهكتهم”.
ويتابع: “الأطفال هم الأكثر تضرراً من هذا الخراب. كثير منهم لم يعرفوا قراهم أصلاً، وُلدوا في المخيمات، وحين عادوا وجدوها غريبة لا تشبه ما رواه لهم أهلهم. بالنسبة لهم، العودة أشبه بالانتقال إلى أرض مجهولة، بلا ذكريات ولا انتماء”.
ويختم دعيمس: “العودة بحد ذاتها رسالة تمسك بالأرض، لكنها لن تستمر إذا غابت مقومات الحياة الأساسية مثل الكهرباء والماء والعمل”.
علاء الأصفر، أحد العائدين إلى معرة النعمان، يوضح أن الأطفال يواجهون صعوبات مضاعفة في ظل غياب الخدمات الأساسية. يقول إنهم يعيشون في بيئة تفتقر إلى مدارس مؤهلة وأماكن آمنة للعب، ما يجعلهم يقضون أوقاتهم بين الركام أو في شوارع غير مهيأة. ويشير إلى أن هذا الواقع يحرمهم من أبسط حقوقهم في التعليم والطفولة الطبيعية، ويترك أثراً نفسياً عميقاً عليهم قد يرافقهم لسنوات طويلة.
وتبدو عودة الأهالي إلى ريف إدلب الجنوبي واقعاً ملموساً، إذ تشير التقديرات إلى أن ما يقارب 60% من سكان المخيمات بدأوا بالرجوع إلى مدنهم وقراهم. ورغم إطلاق بعض المشاريع الخدمية من قبل محافظة إدلب، مثل ترميم نحو 90 مدرسة وافتتاح 30 مركزاً صحياً في المنطقة، فإن البنية التحتية للكهرباء ما تزال غائبة بشكل كامل، من دون وجود خطط واضحة لمعالجتها حتى الآن. وبين ما تحقق من خطوات وما بقي معلقاً، يبقى السؤال: هل تستطيع هذه المناطق أن تستعيد مقومات الحياة الكاملة، أم أن غياب الخدمات الأساسية سيجعل العودة ناقصة ومليئة بالتحديات؟
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية