«نبض الخليج»
في زمنٍ لم تعد فيه وزارات الخارجية وحدها من يتكلّم باسم الدولة، تمدّدت أدوات الدبلوماسية العامة إلى فضاءات المؤثّرين وصنّاع المحتوى وتسلّل الصوت الرسمي إلى هواتف الناس عبر الريلز والستوري والفلوغ والبث المباشر، هذه ليست حيلة علاقات عامة عابرة، بل تحوّلٌ هيكلي في صناعة السرديات العابرة للحدود، جمهور دولي متشظٍ، منصّات تُكافئ الاختصار، وخوارزميات ترى العالم عبر “الترند”.
في هذا السياق وُلدت “دبلوماسية المؤثّرين” كامتدادٍ عملي للدبلوماسية الرقمية وهي إشراك وجوه مدنيّة في إيصال رسائل الدولة، أحياناً بترتيب رسمي معلن، وأحياناً عبر مسارات أكثر التواء، وحين ننقل هذه الفكرة إلى سوريا ما بعد سقوط النظام، يصبح السؤال: كيف يمكن لحكومة انتقالية أن تستخدم هذا السلاح الجديد دون أن تتحوّل هي نفسها إلى مادةٍ للاشتباه وفقدان الثقة؟
خطر لي البحث في هذا الموضوع بعدما شاهدتُ مقطعاً قصيراً للمؤثّرة لمى الأصيل خلال افتتاح معرض دمشق الدولي، إذ ظهرت وهي تصوّر فيديو أثناء حديث الرئيس أحمد الشرع، أثار المقطع تفاعلات متباينة على المنصّات فريقٌ متقبّل، وكثيرون معترضون وناقدون وأحياناً مهاجمون، من هنا بدأتُ التفكير في موقع “دبلوماسية المؤثّرين” في المشهد السوري الجديدـ فوقعت على أمثلة مهمة لاتخلو من بعض المخاطر بالرغم من إيجابيتها للسلطة.
هنا نرى دمجاً صارخاً بين “أسلوب الحياة” والسردية السياسية، مدينة “تصلح للعطلات” بدلاً من مدينة تتعافى من حصار، لهذا الاستخدام وجهٌ جذّاب سريع التأثير، لكنه يترك أثراً أخلاقياً قاسياً على المدى الطويل.
حين اندلعت الحرب في أوكرانيا عام 2022، دعا البيت الأبيض ثلاثين صانع محتوى على “تيك توك” إلى إحاطة رسمية لشرح موقفه من الحرب والرد على أسئلة تتعلّق بالمساعدات، والناتو، واحتمالات التصعيد النووي. الفكرة مباشرة بلوغ شريحة واسعة من المجتمع وربما كثير منها شبابية لا تتابع المؤتمرات الصحفية ولا المنابر الرقمية والإعلامية للحكومة أو المسؤولين، لكن الدرس الأهم كان في الشفافية الإحاطة أُعلن عنها، والصحافة وثّقتها، ما خفّف من شبهة “الرسائل المموّهة” وهذا ما لم يحدث في سوريا، ومع ذلك، ظهرت أسئلة حول انتقاء الأسئلة وطبيعة التحكّم بسردية مؤثّرة، وهو ما يذكّر بأن جمهور المنصّات لا يتسامح طويلاً مع الإخراج الزائد، هذه سابقة مفيدة لأي حكومة جديدة في دمشق تفكّر باستراتيجيات مماثلة لصنّاع محتوى محليين ودوليين.
على الضفّة الأخرى، طوّرت بكين أسلوب الرحلات المصمَّمة للمؤثرين وهي عبارة عن دعوات ليوتيوبرز ومدونين لزيارة مناطق حسّاسة ومنها شينجيانغ -تركستان الشرقية الإقليم ذي الغالبية المسلمة- ببرنامجٍ مُعدّ سلفاً ومساراتٍ تُظهر الطبيعي والجميل وتُقصي ما عدا ذلك، في حين تكشف تقارير بحثية ومنصّات مراقبة الدعاية كيف تحوّلت هذه الرحلات إلى صناعة سرديّة كاملة، مقاطع حياة يومية، أسواق، أطعمة، وازدهار محلي، لكن الثمن كان ردّ فعلٍ معاكساً حين تُكتشف الرعاية أو يُقارن المحتوى بوقائع حقوقية لا تظهر في اللقطات، والدرس هنا كلّما زادت محاولة تلميع المكان بلا كشف للقيود والسياق، زادت احتمالات الارتداد.
وهناك مثالٌ ثالث مهم جداً يمكن قراءته إلى جانب الطريقة الأميركية والطريقة الصينية هو النموذج السعودي: مزجٌ بين صناعة مشهديّة ضخمة واستثمارٍ مقصود في اقتصاد التأثير مع إطارٍ تنظيمي رسمي، عملياً، رعت جهات سعودية عشرات الرحلات والحملات لصنّاع محتوى عالميين ضمن مواسم وفعاليات ولعل الأشهر فيها موسم الرياض وتذكر إحدى الدراسات التنفيذية لشريكٍ تسويقي أنّ أكثر من 300 مؤثّر جرى اصطحابهم في 26 رحلة خلال 2022–2023 لدعم صورة الوجهات والفعاليات، وهي مقاربة تشبه “النموذج الصيني” في تنظيم الوصول وصناعة السردية الميدانية، بالتوازي، أرست الدولة ترخيصاً إلزاميّاً للمؤثّرين عبر الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع منذ 2022، برسوم ومدد محدّدة، ما حوّل التأثير إلى قناة شبه مؤسسي وهو بعدٌ تنظيمي لا نجده عادةً في التجارب غير الحكومية البحتة، لكن هذا المسار واجه أيضًا ارتداداتٍ نقدية حين بدا المحتوى ترويجي صرفا يتجاوز أسئلة كثير منها ماذكرته وسائل إعلام حول حقوق الإنسان، كما ظهر في السجال الدولي حول مهرجانات مهمة وعلى المستوى الاقتصادي الصوراتي الأوسع، تقترن هذه السياسة بحراكٍ سياحي بمئات المليارات ضمن رؤية 2030 لإعادة تموضع المملكة عالمياً، مع إبراز قصصي للمشروعات والمقاصد الجديدة وهو ما يمنح “دبلوماسية المؤثّرين” السعودية وزناً هيكلياً يتجاوز الحملات الموسمية.
كما توظّف موسكو والسلطات التابعة لها “المؤثّرين السياحيين” لتطبيع السيطرة على مناطق محتلة في أوكرانيا من “بلوغر سكول” إلى مهرجانات وواجهات “ترفيهية” فوق ركام مدن مُنهَكة. هنا نرى دمجاً صارخاً بين “أسلوب الحياة” والسردية السياسية، مدينة “تصلح للعطلات” بدلاً من مدينة تتعافى من حصار، لهذا الاستخدام وجهٌ جذّاب سريع التأثير، لكنه يترك أثراً أخلاقياً قاسياً على المدى الطويل، ويُسهّل للطرف المقابل فضح الفجوة بين الفيديو والواقع، أيّ حملة سورية ترويجية حالياً لنقل صورة “الاستقرار” يجب أن تتجنّب هذا الفخ.
من المفيد أيضاً أن تعي الحكومة الجديدة أنّ “المؤثر” ليس فقط صاحب مليون متابع، ثمّة خبراء محلّيون، أكاديميون، صحفيون بيانات، ومبادرات مجتمع مدني قادرة على صناعة محتوى أدق وأقلّ إثارة، لكنه أعلى ثقة على المدى الطويل، هنا تكمن القيمة حيث الانتقال من البريق إلى الثقة.
ما علاقة هذا كلّه بسوريا ما بعد 8 كانون الأول 2024؟
العلاقة وثيقة جداً مع الحكومة الجديدة، أيّاً كان توصيفها المؤسسي، تواجه تحدّي “شرعية مضاعفة”، شرعية الداخل “خدمات، أمن محلي، عدالة انتقالية” وشرعية الخارج “العلاقات الإقليمية والدولية، إعادة الإعمار”، في معركة الرسائل العابرة للحدود خصوصاً نحو جمهور عربي أو غربي متردد ومتعب من الملف السوري والكثير لديهم أحكام مسبقة ووجهات نظر، يبدو خيار دبلوماسية المؤثّرين مغرياً، بعد التحرير جرى استضافة “صنّاع محتوى” سوريين يقيمون في سوريا أو خارجها في القصر الرئاسي وعقد اجتماع -ودّي جدّاً- مع الرئيس أحمد الشرع وتجولوا في القصر الرئاسي والتقوا مسؤولين رفيعي المستوى شكل هذ المشهد تحولاً واضحاً ويبدو أن الإدارة السورية الجديدة مدركة لديبلوماسية المؤثرين، وآخر مثال على ذلك هي الدعوات التي وجهت لمؤثرين لحفل افتتاح معرض دمشق الدولي وما أعقبه من ردود فعل على المنصات حول أداء ومحتوى بعض هؤلاء المؤثرين/ات، يجب أن يكون إلى جانب ذلك -ولا أعترض عليه- هو اصطحاب هؤلاء المؤثرين إلى جنوبي سوريا مثلاً لتوثيق التوغلات اليومية والانتهاكات في المنطقة العازلة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، تنظيم لقاءات مع متخصصي إزالة الألغام الأبطال، إحاطات دورية عن بعد لمؤثّرين عرب وأجانب حول سياسات ضبط الكبتاغون وخطط إعادة الإعمار ومشاريع الطاقة، ومعارك السويداء والساحل والفيدرالية ومركزية الدولة ولا مركزية بعض الأقليات.
ولأنّ “الدبلوماسية عبر المؤثّرين” تمشي على حافة رقيقة بين الإقناع المشروع والبروباغندا، فثمة ميثاقٌ بسيط يمكن أن يقي سوريا الجديدة من الانزلاق، إن أيّ فجوة بين الصورة والسياسة الفعلية ستلتقطها عيون الجمهور -المتابعون- أسرع ممّا نتوقع وهذا ما يرويه كثير من السوريين الذين عادوا من سوريا بعد زيارة طويلة غالبهم لديهم إحباط -ربما نتفهمه جميعنا- لبلد خرج من تحت سلطة نظام مجرم استمر لأزيد من 50 سنة، لكن إعطاء المشهد الرئيسي “للتيكتوكرية” له تبعات سلبية يجب أن لايستهان بها.
من المفيد أيضاً أن تعي الحكومة الجديدة أنّ “المؤثر” ليس فقط صاحب مليون متابع، ثمّة خبراء محلّيون، أكاديميون، صحفيون بيانات، ومبادرات مجتمع مدني قادرة على صناعة محتوى أدق وأقلّ إثارة، لكنه أعلى ثقة على المدى الطويل، هنا تكمن القيمة حيث الانتقال من البريق إلى الثقة.
الخلاصة بسيطة وصعبة في آن “دبلوماسية المؤثرين” يمكن أن تفتح لسوريا الجديدة نافذة على العالم، لكنها لا تستطيع أن تكون نافذةً على واقع غير موجود، إن لم تتقدّم الخدمات، وإن لم تُصن الحقوق، وإن لم تتبدّل بنية الحكم محلياً، فلن تنفع ألف كاميرا على تيك توك ولا عشرات الفلوغات عن التعايش والأمن، أما إذا رافق المحتوى الفعلَ فقد تساعد موجة صانعي المحتوى، بشفافيتهم وانفتاحهم على النقد، في ترميم الجسور بين الداخل والداخل، وبين سوريا والعالم.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية