«نبض الخليج»
قبل أكثر من عقد، حين سقط أول شهيد في درعا على يد النظام المخلوع، انتفضت سوريا بأكملها. لم تكن تفاصيل المذهب والانتماء هي ما أشعل الشوارع، بل الدم كان وحده كفيلا بأن يوقظ الضمير الجمعي، ليكون الشرارة التي أطلقت شعارات الحرية والكرامة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، دماءٌ كانت هي الخط الأحمر، يوم كان للخطوط الحمراء معنى، قبل أن يُبتذل التعبير.
اليوم، بعد أربعة عشر عاماً، تقصف درعا مجدداً، لكن بنار مختلفة. طائرات ومدافع إسرائيلية تستهدف بلدة كويّا في ريف المحافظة، فتزهق أرواح سبعة مدنيين، بينهم أطفال ونساء. الجريمة واضحة، لا تغطية يمكن أن تحرر القاتل، ومع ذلك، فإن وقع هذه الدماء لا يبدو، حتى الآن، كافياً لفرملة موجة خفية، ولكن متنامية، من غزل سياسي باتجاه القاتل، الكيان المحتل.
في الأشهر الأخيرة، بدأت أطراف سورية، شعرت بأن مكانتها مهددة بعد تحولات المشهد، تنظر إلى إسرائيل كطرف يمكن الاتكاء عليه، البعض بدأ يغازلها بلغة الحماية، والبعض يتحدث عن قواسم مشتركة في المصير، وآخرون تجاوزوا ذلك إلى طرح تصورات تنموية أو أمنية لمناطقهم برعاية إسرائيلية. إسرائيل، بدورها، لم تقصّر في توظيف هذا التغير، فغازلت، وشجغت، ولوّحت بالدعم.
ومع الواقعة الدموية الأخيرة يبرز يبرز سؤال لا يمكن الإفلات منه: هل يستطيع من يسير في هذا الاتجاه أن يتجاهل قصف كويّا؟ هل يمكن تمرير دماء المدنيين في درعا كأنها لا تخصنا ويُغض الطرف عنها؟ هل بقي لهذا الدم وزن في الحسابات؟
التذرع بـ “الحماية” من إسرائيل، في الوقت الذي تسفك فيه دماء المدنيين في درعا، لا يُصتف كسقوط أخلاقي فقط، بل هو إعلان صارخ بالخروج من الفضاء الوطني السوري، والتخلي عن آخر ما تبقى من الشرف الجمعي.
الإجابة، حتى لو لم تقال صراحة، ستحكم المسار، لأن ما حدث لا يقتصر على كونه اعتداء يسجل في أرشيف البلاد الكبير، بل هو امتحان، امتحان لصدف الخطاب الوطني الذي لا يزال يتردد في تصريحات أولئك الساعين إلى فتح قنوات مع الاحتلال، امتحان للانتماء الذي لا يختبر إلا عندما يسفك دم في الجوار القريب، لا على يد العدو البائد، بل على يد من يسوّق اليوم على أنه الخيار الواقعي أو الجار القوي.
في هذا المشهد، لا مكان لفهم أو تبرير. هي ليست مجرد خيارات نجاة عشوائية، بل انزلاق مدروس نحو خيانة المعنى الأول للانتماء، فأن يمد أحدهم يده لمحتل يقتل أبناء بلده، لا يعد مناورة سياسية، بل خيانة واضحة، لا تحتاج إلى تلطيف.
التذرع بـ “الحماية” من إسرائيل، في الوقت الذي تسفك فيه دماء المدنيين في درعا، لا يُصتف كسقوط أخلاقي فقط، بل هو إعلان صارخ بالخروج من الفضاء الوطني السوري، والتخلي عن آخر ما تبقى من الشرف الجمعي. من يطلب الحماية من قاتل جاره، لا يستحق أن يُحاور مهما تلونت عباراته أو توارت نواياه خلف قناع الخوف.
ثمّة من يقول: “ما علاقتنا بدرعا؟ لسنا نحن من قُصف، ولن تُقصف مناطقنا”، وهذا هو تماماً منطق الانفصال الأخلاقي، لا السياسي فقط. حين تتحول الجغرافيا إلى مبرر للصمت، وحين يقايض الدم بالأمان، نكون قد دخلنا منطقة رمادية، لا عودة منها إلا بفقدان آخر خيوط الانتماء.
كانت درعا، قبل أربعة عشر عاماً، مُنطلق الثورة، واليوم، يمكن لدمها أن يكون بداية مراجعة، مراجعة لمن يُمنّي النفس بالنجاة الفردية، حتى لو كانت على حساب الضمير الجمعي، فإسرائيل، التي تسفك الدم ثم تلوح بالحماية، لا يمكن أن تكون سوى الوجه الآخر للخطر، حتى لو بدت لبعض المرهقين كمهرب.
العدوان على كويّا، رغم فظاعته، قد يكون محنة كاشفة، فهو يعيد ضبط المعيار، يعيد السؤال إلى بساطته الأولى: هل نحن سوريون، حقاً؟ إن كنا كذلك، فلا يمكننا أن نغص الطرف عن قصف مدنيين من أبناء هذه البلاد، ولا أن نهادن القاتل، مهما أعاد تعريف نفسه.
كانت درعا، قبل أربعة عشر عاماً، مُنطلق الثورة، واليوم، يمكن لدمها أن يكون بداية مراجعة، مراجعة لمن يُمنّي النفس بالنجاة الفردية، حتى لو كانت على حساب الضمير الجمعي، فإسرائيل، التي تسفك الدم ثم تلوح بالحماية، لا يمكن أن تكون سوى الوجه الآخر للخطر، حتى لو بدت لبعض المرهقين كمهرب.
في النهاية، لا شيء يسائل الضمير مثل الدم، والدم، حين يسيل، لا يترك مجالاً للمناورة، إما أن تقف مع من يُقتل، أو مع من يقتُل، وكل ما عدا ذلك، هو لغو في حضرة الشهداء.
شارك هذا المقال
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية