جدول المحتويات
«نبض الخليج»
للسعودية دور محوري في التنمية الاقتصادية بسوريا، حيث تستعين بنهج القوة الناعمة لتعزيز نفوذها هناك، ففي الوقت الذي تقدمت قوى أخرى بعروض دبلوماسية للحكومة السورية الوليدة، نلفي الرياض وقد توغلت اقتصادياً بشكل كبير في سوريا، ويشمل ذلك الدعوة لرفع العقوبات، وإقامة مجلس اقتصادي مشترك، والاستثمار في مشاريع البنى التحتية وإعادة الإعمار، لأن السعودية تعتبر هذا الاستثمار ضرورياً لمد نفوذها في المنطقة، فقد أضعف سقوط الرئيس السابق بشار الأسد موقف إيران، وخلق انفراجة في بلاد الشام لطالما حلمت السعودية بملئها. ومع اتخاذ السعودية لموقف جازم تجاه استراتيجيتها في المنطقة، لابد أن تزيد استثماراتها في سوريا مع تقبلها للمخاطر المترتبة على ذلك.
في مطلع تموز الماضي، رفعت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب العقوبات عن هيئة تحرير الشام، بعد أن أصبح قائدها أحمد الشرع الرئيس المؤقت لسوريا، ثم شكلت الهيئة حكومة ائتلافية مؤقتة، وصادقت على دستور مؤقت، وشرعت بتزويد الخدمات الحكومية الأساسية. وفي الوقت الذي قدمت نفسها كقوة رئيسية في دمشق، أصبح جهاز الأمن السوري يسعى جاهداً للحفاظ على الأمن في كامل الأراضي السورية، على الرغم من أن الحكومة لا تسيطر على مساحات شاسعة من البلد.
وبالرغم من وجود تلك العيوب والنقائص، حظيت الحكومة السورية باعتراف قوى دولية أخرى، ومنها الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، وهذه القوى رفعت معظم العقوبات التي فرضتها على سوريا، وذلك في الربع الثاني من عام 2025. وأتى رفع العقوبات بعد أشهر من مناورات للقوة الناعمة مارستها السعودية ووصلت لذروتها خلال اجتماع ضم ترمب والشرع بالرياض، حيث أعلن ترمب عن عزمه على رفع العقوبات، فقدم بذلك التخفيف الذي أضحى الاقتصاد السوري بأمس الحاجة إليه بعد أن أثقلته سنوات تجاوزت العشرة من الحرب. ثم إن موقع سوريا الجغرافي كونها تطل على البحر المتوسط وتتوسط ثلاث قارات بالإضافة إلى وجود فرص للتنمية فيها بعد الحرب، كل ذلك لفت انتباه المستثمرين. ومع مواصلة الشرع لترسيخ سلطته وعلاقاته مع العناصر الفاعلة الدولية، لابد للتطبيع معه أن يزيد إلى جانب الزيادة في الاستثمارات الأجنبية ببلده.
دوافع الرياض
يمثل هذا الاستثمار بالنسبة للسعودية شيئاً أكبر من تنشيط اقتصادها وتحقيق عوائد بناء على ذلك، بعد أن أضحت سوريا محور العجلة في استراتيجية السياسة الخارجية التي تتبناها الرياض، لذا فإن أهم دوافع الرياض تتمثل بمنع عودة النفوذ الإيراني، أو إحياء تجارة وإنتاج المخدرات غير المشروعة في سوريا.
تتمثل أولوية المملكة العربية السعودية في التصدي لمحور الشر الإيراني بعد تراجعه، والذي جعل منافسيه من دول الخليج يتخذون موقفاً دفاعياً ويستمرون عليه حتى هذه السنة. وفي الوقت الذي زادت الرياض من قوتها الناعمة عالمياً عبر استثماراتها في الرياضة والإعلام وغيرها من المجالات الاجتماعية، فرضت أذرع إيران قيوداً عليها، وعلى رأس تلك الأذرع حزب الله وحماس وغيرها من الميليشيات الموجودة في العراق، ناهيك عن الثوار الحوثيين في اليمن، ما سمح لإيران بممارسة ضغطها على دول الخليج طوال عقود خلت.
وبالأسلوب ذاته، دعمت المساعدات الإيرانية نظام بشار الأسد، وسمحت لطهران بالمقابل بالاستعانة بسوريا وتحويلها إلى قاعدة عمليات لمد النفوذ الإيراني. ولكن مع الإطاحة بنظام الأسد، وإضعاف حزب الله، أضحى ما تبقى من النفوذ الإيراني في سوريا شيئاً لا يذكر، وهذا ما أعطى الفرصة للرياض لتغيير الوضع الراهن.
في الوقت الذي دعمت قوى فاعلة إقليمية هيئة تحرير الشام على مدى تاريخها، ونذكر من بين تلك القوى قطر وتركيا، لم تقدم السعودية أي دعم للهيئة، بل ولد الموقف الاستباقي الحالي الذي تتبناه الرياض من رحم تاريخها في اليمن والعراق، إذ خلال الفترة التي سبقت الحرب الأهلية في اليمن، كان فيلق القدس الإيراني يدعم الحوثيين، في حين تحفظت السعودية على ذلك، واختارت ألا تجاري الدعم الإيراني إلى أن أصبحت اليمن تحت نفوذ طهران، وهذا النهج أجبر الرياض على الدخل الذي كلفها كثيراً ومايزال مستمراً حتى الآن.
تكرر الأمر نفسه مع العراق، حيث ترددت السعودية في ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الأميركية في عام 2011، ما سمح للنفوذ الإيراني وحالة انعدام الاستقرار من إبطاء الاستثمار وتطبيع العلاقات مع الحكومة العراقية الجديدة. ثم ازدهر النفوذ الإيراني ما أسهم في تشكيل تحالف من ميليشيات تابعة لطهران. وبما أن تلك الأخطاء القائمة على التحفظ قد أثقلت كاهل صناع القرار السعوديين، لذا غيرت الرياض استراتيجيتها الإقليمية، وتبنت نهجاً استباقياً قائماً على الاستثمار على الرغم من كل المخاطر بالنسبة لسوريا.
وإلى جانب التهديد بعودة النفوذ الإيراني، هنالك الحاجة التي تدفع الرياض للحد من تجارة الكبتاغون، إذ عندما خنقت العقوبات الدولية نظام الأسد، بدأت بتنويع مصادر دخله عبر أسواق الممنوعات، والتي كان أكبرها سوق تصنيع الكبتاغون والاتجار به. وسرعان ما أضحت السعودية سوقاً كبيراً للكبتاغون، وواجهت أزمة مخدرات متصاعدة. لذا، ومع خروج عملية تصنيع الكبتاغون وإنتاجه من سوريا، أخذت الرياض بالسعي للحد من خطر عودته.
مبادرات الرياض
مع نأي الحكومة السورية بنفسها عن الكبتاغون والدعم الإيراني، تهدف الاستثمارات الاستراتيجية السعودية لتعزيز استقلال سوريا واستغنائها عن مصادر الدخل تلك مع زيادة نفوذها في ذلك البلد. وللتغلب على القيود التي تثقل كاهل ميزانية الحكومة السورية، تعهدت السعودية وقطر بدفع رواتب موظفي الحكومة إلى جانب تسديد ديون سوريا للبنك الدولي والتي بلغت 15.5 مليون دولار.
كما عقدت الرياض صفقات ووقعت مذكرات تفاهم للاستثمار في القطاع الخاص، وخاصة في مجال الطاقة والإعمار، ففي شهر تموز الماضي، أعلن وزير الاستثمار السعودي، خالد بن عبد العزيز الفالح عن عقد صفقات بلغت قيمتها 6.4 مليار دولار وذلك في مجال العقارات والبنية التحتية والاتصالات. وإلى جانب تلك الصفقات، أعلن الوزير عن إنشاء مجلس الأعمال السوري – السعودي، بحيث تسعى كل تلك الأمور لإحياء الاقتصاد السوري مع منح الرياض نفوذاً مهماً في سوريا.
ما أهمية الاستثمارات الأجنبية في سوريا؟
تقدر تكاليف إعادة إعمار سوريا بعد الحرب بنحو 250-400 مليار دولار، ولا يمكن لسوريا بمفردها تحمل تلك الفاتورة، ما جعل إحياء الاقتصاد أهم أولوية بالنسبة للقيادة السورية الجديدة التي يتعين عليها تحصيل عوائد وإيرادات إلى جانب إعادة بناء البلد وذلك حتى تحافظ على شعبيتها وتأييد الناس لها.
حصلت استثمارات الرياض على أسهم كبيرة في قطاع الإسمنت والخرسانة بسوريا، كما ستلعب دوراً محورياً في جهود إعادة الإعمار، وعلى الرغم من أن معظم أنحاء البلد مايزال ركاماً بسبب الحرب، ظل الطلب على إعادة البناء قليلاً بسبب ارتفاع التكاليف، لذا فإن تنشيط صناعة الإسمنت والخرسانة في سوريا سيوفر فرص عمل، وسيدر إيرادات على الحكومة، كما سيخفض من الكلفة الإجمالية لعملية إعادة الإعمار.
قبل الحرب في سوريا، كان الاقتصاد يعتمد على إنتاج النفط والغاز الطبيعي، ومع توقف إنتاجهما بسبب النزاع، تحول النظام البائد إلى دولة ريعية تابعة لغيرها ترفدها تجارة المخدرات، وهذا ما جعل الاقتصاد السوري يتعثر، وأسهم بسقوط الأسد أخيراً، فقد تراجعت عائدات النفط والغاز خلال فترة الحرب، كما أن معظم الحقول السورية تقع في شمال شرقي سوريا حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية. وفي الوقت الذي تنافس حكومة الشرع غيرها من القوى للسيطرة على تلك الموارد، نراها تدرك العوائق التي تعترض سبيلها، وهذا ما جعلها تفكر بموارد بديلة يمكن للاستثمارات السعودية أن تعززها.
ما الذي يخبئه المستقبل؟
لا أحد يرجح للعمل العسكري الإسرائيلي على سوريا أن يقف في وجه استمرار تدفق الاستثمارات السعودية، خاصة وأن هذا العمل العسكري لن يرقى لحملة هدفها تغيير النظام. بل حتى من دون أي تدخل إسرائيلي، تعاني معظم أجزاء سوريا من انعدام الاستقرار، ويستثنى من ذلك دمشق. وبينما تزيد حالة انعدام الاستقرار من الخطر على الاستثمارات، فلابد أن تحدث فوضى عارمة في سوريا قبل أن تعيد السعودية النظر في استراتيجيتها بشأن سوريا.
وفي الوقت الذي ترتفع نسبة تحمل السعودية للخطر في سوريا بشكل كبير، يمكن لعوامل داخلية وخارجية أن تزيد من نسبة الخطر، فهنالك احتمال وقوع اقتتال بين هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية، واحتمال عودة تنظيم الدولة، أو انهيار الائتلاف الحاكم الذي يترأسه الشرع، أو احتمال حدوث هجوم إسرائيلي شامل على سوريا، فكل تلك الأمور ممكنة على الرغم من تفاوت احتمالية وقوعها، ولكن كلما زادت الاستثمارات التي تقدمها السعودية وغيرها من الجهات الفاعلة في المنطقة، زاد ذلك من ترسيخ الحكومة المركزية، وتدعيم قوتها، بما يقلص فرصة وقوع تلك الأحداث.
إن تعطش سوريا للاستثمارات يجعل من مبادلة ذلك بزيادة النفوذ السعودي أمراً مقبولاً لدى القيادة السورية، كما أن أهداف دمشق بالنسبة لمحاربة تصنيع الكبتاغون والحد من عودة النفوذ الإيراني تتماشى مع ما تريده الرياض، لذا فإن احتمال وقوف الحكومة السورية الجديدة ضد تلك الاستثمارات احتمال ضئيل للغاية.
ومع تنافس بقية القوى الإقليمية على النفوذ في دمشق، قد يصل تحمل الرياض للمخاطر إلى مستويات عالية جديدة، إذ في الوقت الذي تذكر قطر وتركيا الشرع بتاريخهم المشترك وتقوم كل منهما على حدة بتحركاتها في سوريا، ستضطر الرياض إلى زيادة استثماراتها هناك، وهذا الجمع بين الدوافع والاحتمالات والمنافسة لابد أن يؤدي لزيادة كبيرة في الاستثمارات السعودية في سوريا مستقبلاً.
المصدر: The New Lines Institute
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية