«نبض الخليج»
بين أنقاض المنازل المدمرة وخيم النزوح الممتدة على أطراف مدن قطاع غزة، استقبل الفلسطينيون إعلان وقف الحرب بمزيج من الفرح والدموع، في لحظة وصفها كثيرون بـ”البقاء بعد كابوس طويل” استمر عامين متواصلين من القصف والدمار والتهجير والمعاناة.
وفي الشوارع شبه الخالية والمخيمات المزدحمة بالنازحين، خرج السكان من خيامهم ونظروا إلى السماء التي بدت لأول مرة منذ أشهر خالية نسبيا من الطائرات. وركض الأطفال حفاة عبر الرمال، وأطلت النساء من بين الجدران المهدمة، فيما رفع بعض الشبان الأعلام الفلسطينية في مشهد نادر منذ اندلاع الحرب.
لكن هذه الفرحة ظلت مشوبة بمرارة الفقد، إذ يدرك الجميع أن الهدوء لا يمحو ما فقده الغزيون، ولا يعيد من رحل.
محمد أبو عودة (45 عاما) كان نجارا في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة قبل الحرب، ويعيش اليوم في خيمة في دير البلح وسط القطاع بعد أن فقد منزله ومصدر رزقه.
يقول وهو يتأمل الأفق الرمادي: “أول رد فعل لي كان البكاء. كان البكاء ممزوجاً بالفرح والحزن. شعرت بأنني نجوت من محرقة حقيقية، لكنني في الوقت نفسه تذكرت وجوه أحبائي الذين لم ينجوا. لم يبق لدينا بيت ولا شجرة، وكل ما نحلم به الآن هو العودة لنرى ما بقي من أرضنا”.
ويضيف محمد الذي فقد عمله وأدواته بالكامل: “كنت أزرع أشجار الليمون حول منزلي، وسأزرع أول شجرة جديدة عندما أعود، كدليل على أن الحياة قادرة على النهوض من تحت الركام”.
جلس علي السيد (39 عاما)، سائق التاكسي، على شاطئ غزة، يتأمل البحر الذي حرم من رؤيته لمدة عامين كاملين.
ويقول بصوت عاطفي: “هذه اللحظة التي كان ينتظرها كل فلسطيني، هي اللحظة التي توقف فيها القتل وصمتت المدافع. لقد انتهت أخيراً سنتان من الدم والدموع والجوع. البحر نفسه تعب من سماع أصوات الانفجارات، واليوم عندما عدت إليه بكيت طويلاً”.
يحلم علي بشراء سيارة جديدة للعودة إلى عمله، ويؤكد أن أول ما سيفعله هو زيارة والدته في حي الرمال ليعانقها بعد فراق طويل. لكنه يعترف بخوفه من أن يكون الهدوء مؤقتا: “نريد سلاما حقيقيا، وليس استراحة قصيرة قبل الحرب المقبلة”.
في خيمة صغيرة بالقرب من خان يونس، جلست فاطمة حلمي، 33 عاما، معلمة لغة عربية فقدت زوجها المسعف خلال الحرب، ولم يتم العثور على جثته حتى الآن. وتقول وهي تمسك بيد ابنتها الصغيرة: “أريد العودة إلى منزلي في الشيخ رضوان، حتى لو لم يبق منه شيء. اليوم اختلطت في قلبي مشاعر كثيرة، الفرح والحزن والأمل واليأس. أتمنى أن يكون هذا الاتفاق بداية جديدة، وليس مجرد هدنة مؤقتة. أريد فقط أن يعيش أطفالي أياماً دون خوف”.
ورغم معاناتها، تحاول فاطمة منذ أشهر تعليم أطفال المخيم القراءة والكتابة داخل خيمتها، في محاولة لإحياء روح المدرسة التي دمرتها الحرب. وتضيف بابتسامة متعبة: “ربما يكون التعليم هو الشيء الوحيد الذي لم تستطع الحرب تدميره”.
وفي حي الصبرة بمدينة غزة، جلس إبراهيم الديري (52 عاما)، الموظف السابق في بلدية غزة، أمام أنقاض منزله المهدم جزئيا، متأملا المكان الذي شهد حياته كلها. لقد فقد اثنين من أقاربه في القصف، لكنه واصل عمله التطوعي في توزيع المساعدات.
يقول الديري بهدوء: “الحرب تنتهي والسلام يعود شيئاً فشيئاً إلى أرضنا الجريحة. لكن قبل أن نرفع أصوات الفرح، علينا أن نستمع إلى صمت الأمهات اللاتي قدمن أغلى ما لديهن. نعم، فلنفرح ولكن بكرامة تليق بعظمة التضحيات”.
واليوم، يعمل إبراهيم مع مجموعة من الشباب على إزالة الأنقاض من شوارع الحي. ويقول وهو يمسك ببقايا جدار منهار: “كل حجر نزيله هو خطوة صغيرة نحو الحياة مرة أخرى”.
وعلى الرغم من مشهد الفرح الذي عم أرجاء القطاع، إلا أن شعوراً عاماً بالحذر والشك يسود. ولا يعتقد العديد من سكان غزة أن الحرب قد انتهت بالفعل. ولا تزال أصوات الطائرات تُسمع أحيانًا في السماء، مما يثير لدى الناس خوفًا غريزيًا متراكمًا. لكن توقف القصف، ولو مؤقتاً، أعاد للمدينة بعضاً من نبضها الأول: أصوات الأطفال، ونداءات الباعة، وضحكات الناس رغم الألم.
في كل ركن من أركان القطاع هناك جملة واحدة على شفاه الجميع: «نريد أن نعيش».
وأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الليلة الماضية، عن التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب في غزة، ينص على وقف شامل لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، وبدء عملية تبادل الأسرى.
ورحبت الفصائل الفلسطينية بالاتفاق واعتبرته انتصارا لصمود الشعب، فيما حذر محللون من هشاشته في ظل غياب تفاهمات سياسية حول مستقبل القطاع. لكن يبقى الأمل في أن تشكل هذه الهدنة نقطة انطلاق نحو السلام الدائم، كما يقول محمد أبو عودة: «ما بعد الحرب يجب أن تكون بداية جديدة، وليست تكراراً للجحيم».
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية