جدول المحتويات
«نبض الخليج»
لم يكن إعلان لبنان وسوريا عن تجميد العمل بالمجلس الأعلى اللبناني–السوري، خلال زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت، حدثاً عادياً في تاريخ العلاقات بين البلدين.
فالقرار الذي جاء بموافقة الطرفين، وفق مصادر مطّلعة، يشكّل نقطة تحوّل في بنية العلاقة الرسمية بين بيروت ودمشق، ويُنهي عملياً المرحلة التي كانت فيها “معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق” الموقّعة عام 1991 إطاراً مؤسسياً لوصاية سورية مقنّعة على الدولة اللبنانية.
ورغم أن الإعلان جاء بعبارات دبلوماسية هادئة تتحدث عن “تطوير آليات التنسيق وفق أسس جديدة”، إلا أن الرسالة الأعمق واضحة: نهاية زمن المجلس الأعلى الذي مثّل أحد أعمدة النفوذ السوري في لبنان منذ التسعينيات، وبداية عهد يسعى فيه النظام السوري الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع، إلى إعادة بناء علاقات متكافئة تقوم على السيادة والتعاون، لا على الخضوع والإملاء.
وثيقة 1991.. التنسيق الشامل أم الغطاء القانوني للهيمنة؟
تعود جذور المجلس الأعلى اللبناني-السوري إلى معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق الموقعة في دمشق، في 22 أيار/مايو 1991، والتي وُلدت في سياق ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، حين كان الجيش السوري يمسك فعلياً بمفاصل السلطة في لبنان.
صيغت المعاهدة بلغة تبدو مثالية، تتحدث عن “تنسيق في مجالات السياسة والدفاع والاقتصاد والثقافة”، لكنها في الواقع أرست منظومة وصاية دائمة على لبنان، جعلت من سوريا الطرف المقرّر في الملفات الأمنية والعسكرية والخارجية.
أنشأت المعاهدة بموجب مادتها السادسة المجلس الأعلى اللبناني–السوري، الذي ضم رئيسي الجمهورية والحكومة ومجلسي النواب في البلدين، ومعهم رؤساء الأجهزة الأمنية والوزراء المعنيون.
كان هذا المجلس يجتمع مرة واحدة على الأقل في السنة، لكن قراراته كانت ذات قوة تنفيذية تتجاوز المؤسسات اللبنانية، بحيث باتت الملفات الحساسة، من التعيينات إلى السياسات الأمنية، تُبحث في دمشق لا في بيروت.
ومع توقيع الاتفاق الأمني والدفاعي» المكمّل للمعاهدة في أيلول/سبتمبر 1991، اكتملت حلقة السيطرة، تبادُل معلومات من طرف واحد، تنسيق أمني على قاعدة التبعية، وإلزام بيروت بعدم إيواء أي معارض سوري، مقابل حرية مطلقة للأجهزة السورية في التحرك داخل لبنان تحت شعار حماية الأمن القومي المشترك.
من حماية الأمن إلى مصادرة السيادة
حين وُقّعت “معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق”، عام 1991، كانت اللغة المستخدمة في نصّها توحي بأن الهدف هو تأمين الأمن القومي المشترك ومنع أي اعتداء على أحد البلدين عبر أراضي الآخر، لكن التطبيق العملي لهذا البند تحوّل سريعاً إلى مفهوم أمني توسّعي استخدمه النظام السوري كذريعة لمدّ نفوذه إلى داخل المؤسسات اللبنانية، حتى بات “التنسيق” مرادفاً لـــ “الوصاية”.
في ظل ما كان يُعرف بـ”الوجود العسكري السوري الشرعي” الذي استمر حتى عام 2005، فرضت دمشق نظاماً أمنياً موازياً داخل لبنان، فمديرية المخابرات السورية في عنجر أصبحت عملياً المرجعية العليا لكل الأجهزة اللبنانية، كان مديرها في تلك الفترة، غازي كنعان، يتصرّف كـ”حاكم فعلي” للبلاد، يستدعي الوزراء والنواب، ويصدر التوجيهات لقادة الأجهزة، ويشرف على التعيينات في المراكز الأمنية الحساسة.
وتحت شعار التنسيق، تدفّقت المعلومات الأمنية اللبنانية إلى دمشق بصورة دورية، من دون أي التزام مقابل بالشفافية أو التبادل، حيث كانت الاجتماعات الأمنية المشتركة بين ضباط البلدين تتحوّل إلى جلسات إملاء، يُطلب فيها من الجانب اللبناني تنفيذ إجراءات محددة أو فتح ملفات سياسية تحت عنوان حماية الاستقرار.
حتى نشرات مديرية المخابرات في الجيش اللبناني وتقارير الأمن العام كانت تصل إلى المكاتب الأمنية السورية في بيروت ودمشق، في حين كان الردّ الوحيد الذي يتلقاه لبنان هو “التنبيه” من أي تحرّك داخلي لا يرضي دمشق.
أمن السلطة لا أمن الدولة
تجاوز هذا التنسيق حدوده العسكرية ليتحوّل إلى شبكة مراقبة سياسية واجتماعية واسعة، كان ضباط الارتباط السوريون يتدخلون في تفاصيل الحياة الحزبية والإعلامية، فيمنحون تراخيص لبعض الصحف ويعرقلون أخرى، ويوجّهون الأجهزة اللبنانية إلى ضبط الأصوات المعارضة لسوريا، حتى داخل الجامعات.
هكذا تحوّل مبدأ “الأمن المشترك” إلى أداة لحماية النظام السوري من داخل لبنان، إذ جرى تصوير كل انتقاد أو تحفّظ على الوجود السوري بأنه “تهديد للأمن القومي المشترك”، وتالياً “مخالفة للمعاهدة”.
كذلك، سُخّرت الأجهزة اللبنانية -خاصة الأمن العام- لمتابعة السوريين المعارضين المقيمين في لبنان، وتسليم بعضهم إلى دمشق بناءً على طلبات مباشرة من المخابرات السورية، في خرق واضح لمبدأ السيادة اللبنانية ولالتزام لبنان بالمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.
المصادرة الاقتصادية والحدودية
لم تتوقف مصادرة السيادة عند الجانب الأمني، فالمعاهدة فتحت الباب أمام تداخل اقتصادي قسري جعل من لبنان سوقاً ملحقة بالاقتصاد السوري.
وتحت عنوان “التنسيق التجاري والجمركي”، فُرض على لبنان القبول بتعرفة جمركية موحدة تُحدّدها دمشق عملياً، ما حرم بيروت من أحد أهم أدواتها السيادية في السياسة المالية.
في المقابل، كانت البضائع السورية تعبر الحدود اللبنانية من دون رسوم تقريباً، في حين تُفرض على المنتجات اللبنانية إجراءات إدارية معقدة تحدّ من منافستها داخل السوق السورية.
أمّا في ملف النقل البري، فقد تحكّمت سوريا بالكامل بمسار الشاحنات اللبنانية المتجهة نحو الدول العربية. كان معبر المصنع يُفتح ويُغلق وفق المزاج السياسي، وكثيراً ما استُخدم كورقة ضغط على الحكومات اللبنانية، بل إن بعض رجال الأعمال المقربين من النظام السوري حصلوا على امتيازات حصرية في النقل والترانزيت، مقابل رشاوي أو “عمولات سياسية”، جعلت حركة الصادرات اللبنانية رهينة لإرادة دمشق.
التحكم بالمعابر والمياه والطاقة
في ملف المعابر والمياه، ظهرت بوضوح أحادية القرار السوري، فدمشق، متذرعة بـ”حقها السيادي في استثمار الموارد المشتركة”، شرعت في بناء سدود ومحطات على مجرى نهر العاصي قلّصت حصة لبنان المائية بنسبة تفوق 60%.
ورغم احتجاجات متكرّرة من وزارة الطاقة اللبنانية، لم تتمكّن بيروت من فرض أي تعديل أو اتفاق جديد، لأن الموضوع كان يُعتبر من “صلاحيات المجلس الأعلى” الذي يخضع عملياً لإرادة دمشق.
الأمر ذاته انسحب على ملفات الكهرباء والغاز، حيث فرضت سوريا على لبنان شروطاً مجحفة لتزويده بالطاقة عبر شبكات الربط العربي، وأحياناً استخدمت الإمداد كوسيلة ضغط سياسي، فتقطع التيار أو تقلّص الكميات بذريعة الأعطال التقنية.
السيادة المخنوقة بالمعاهدات
بهذا الشكل، تحوّل شعار “حماية الأمن المشترك” إلى نظام وصاية شامل امتد إلى كل مفاصل الدولة اللبنانية: من التعيينات الأمنية، إلى إدارة الحدود، إلى السياسة الخارجية التي كانت تُنسّق في عنجر قبل أن تُعلن من بيروت. وأصبح السفراء العرب والأجانب يدركون أن الطريق إلى حلّ أي أزمة لبنانية تمرّ عبر دمشق، لا عبر القصر الجمهوري أو السراي الحكومي.
ومع مرور الوقت، بات المجلس الأعلى اللبناني–السوري رمزاً لزمن فقد فيه لبنان قراره الوطني المستقل، حتى بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005، ظلّت هذه المنظومة قائمة بوجه آخر، عبر شبكة المصالح التي تركها النظام السوري في الإدارات والمؤسسات والاقتصاد اللبناني، إلى أن بدأ تفككها تدريجياً مع تغيّر المعادلات الداخلية والإقليمية.
المرحلة الجديدة: النظام السوري الجديد وإعادة تعريف العلاقة
منذ وصول الرئيس أحمد الشرع إلى الحكم في دمشق، بدأ خطاب جديد يتبلور في السياسة الخارجية السورية، يقوم على مبدأ “إعادة بناء الجوار العربي على قاعدة الندية والمصالح المتبادلة”، الشرع، الذي يسعى لتلميع صورة النظام السوري بعد مرحلة بشار الأسد، يدرك أن إعادة الاعتراف الإقليمي بسوريا تمر عبر تفكيك رموز الوصاية السابقة، وفي مقدمتها العلاقة المختلّة مع لبنان.
وزيارة الوزير أسعد الشيباني إلى بيروت جاءت ضمن هذا الإطار، ففي لقاءاته مع الرئيس جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام ونائبه طارق متري، طرح الشيباني مقاربة جديدة تقوم على “تنظيف الإرث السياسي والإداري للعلاقات السابقة”، وتحديد آليات تعاون جديدة بين الوزارات المختصة مباشرة (الداخلية، العدل، الاقتصاد، التصدير)، بعيداً عن الهياكل القديمة التي تمثّلها الأمانة العامة للمجلس الأعلى.
وتشير مصادر حكومية لبنانية إلى أن القرار بتجميد عمل المجلس الأعلى تمّ بتفاهم مسبق بين بيروت ودمشق، بعد أن اتضح أن هذه المؤسسة لم تعد تعبّر عن روح المرحلة الجديدة في سوريا، وأن استمرارها يشكّل عائقاً أمام بناء علاقة طبيعية بين دولتين ذاتي سيادة.
كيف ستُدار المرحلة المقبلة؟
من المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة مراجعة شاملة لجميع الاتفاقيات المنبثقة عن معاهدة 1991، لا سيّما الاتفاق الدفاعي والأمني، والاتفاقات الاقتصادية والتجارية، واتفاقات النقل والعبور، وحتى التعاون القضائي.
وسيُصار إلى استبدال المجلس الأعلى بهيكل جديد تحت مسمى اللجنة الوزارية اللبنانية–السورية للتعاون الثنائي، تُعقد اجتماعاتها بالتناوب بين بيروت ودمشق، وتخضع لمراقبة البرلمانين في البلدين، بما يضمن الشفافية والمساءلة.
في الجانب اللبناني، يُنظر إلى هذا التطور على أنه فرصة لاستعادة التوازن في العلاقة مع سوريا، خصوصاً أن التفاهم الجديد يحظى بدعم عربي واضح من السعودية وقطر، اللتين تعتبران أن “طيّ صفحة الوصاية السورية السابقة” شرط أساسي لإعادة اندماج سوريا في المنظومة العربية.
أمّا في دمشق، فيرى المحيطون بالرئيس الشرع أن الانفتاح على بيروت هو اختبار مبكر لجدية الإصلاح في السياسة الخارجية السورية، وأن تصحيح العلاقة مع لبنان يشكّل مدخلاً لاستعادة الثقة مع العرب والغرب معاً.
نهاية رمزية وبداية جديدة
هكذا، وبعد 34 عاماً على توقيع “وثيقة الأخوّة والتعاون”، تعود العلاقة اللبنانية–السورية إلى نقطة إعادة التأسيس، فقرار تجميد المجلس الأعلى لا يعني القطيعة، بل يمثّل إعلان وفاة للنظام القديم للعلاقات بين البلدين، وفتح الباب أمام نظام جديد يقوم على التنسيق الواقعي والمصالح المتبادلة، لا على الهيمنة السياسية والأمنية.
في الوعي اللبناني العام، يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها أول اعتراف سوري رسمي بحق لبنان في إدارة شؤونه السيادية كاملة، أما في الوعي السوري الجديد، فهي جزء من مراجعة أوسع لسياسات النظام السابق الذي استنزف موارد سوريا وقطع علاقاتها مع محيطها العربي.
وبين من يرى في الخطوة “تصحيحاً للتاريخ”، ومن يعتبرها “فرصة لطيّ صفحة ثقيلة”، تبقى الحقيقة الأساسية أن المجلس الأعلى اللبناني–السوري، الذي كان يوماً عنواناً للوصاية، أصبح اليوم رمزاً لمرحلة انتهت، وأن العلاقة بين البلدين تدخل أخيراً اختبار الندية والاحترام المتبادل.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية