«نبض الخليج»
في تقرير ميداني نشره موقع ميدل إيست آي، سلّط الضوء على الواقع المركب لشمال شرقي سوريا، في ظل الأزمات المتراكمة التي تشمل التهديدات الأمنية، والعقوبات الدولية، والتدهور الاقتصادي، والتجاذبات السياسية المحلية والإقليمية.
يروي التقرير مشاهد من الأرض، بدءاً من عبور نهر دجلة قادماً من كردستان العراق إلى مناطق شمال شرقي سوريا، ويصف الفوارق الصارخة بين منطقتين متجاورتين من حيث التنمية والبنية التحتية، كما يستعرض مواقف السكان المحليين ومصيرهم المعلّق بين القوى الدولية والإقليمية.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذه المادة في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بالواقع السوري، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
عندما تعبر نهر دجلة من كردستان العراق لتصل إلى شمال شرقي سوريا تجد نفسك قد قطعت رحلة بين عالمين مختلفين، إذ على مدار قرون، بقي هذا الطريق يمر عبر النهر العظيم، الذي يمثل الحد الفاصل بين إمبراطوريتين متناحرتين، كما أنه الممر المائي المتنازع عليه والذي يعتبر شريان الحياة بالنسبة للملايين من الناس.
يعطيك الجسر العائم المهلهل هنا فكرة عما سيأتي وأنت ترحل عن مناطق حكومة إقليم كردستان التي حظيت بتطور وأداء جيد، لتصل إلى منطقة معزولة داخل سوريا، تتسم بالضعف والحرمان على المستوى الاقتصادي، والطريق الذي يمتد من النهر إلى تلك المنطقة يكاد يكون غير سالك، كونه مليء بالحفر الواسعة.
هذا وإن “المنطقة الكردية” في الشمال السوري محاطة بالمنافسين والأعداء على حد تعبير الكرد، أما الحدود التركية فهي إما مسورة بجدار أو بأسلاك شائكة.
في كل لقاء حضرته، تحدث الخطباء عن عواقب العنف الطائفي الذي وقع في الساحل السوري خلال شهر آذار الماضي، وأتى ذلك الحديث مبطناً بخوف ضمني غير معلن عنوانه: قد يأتي الدور علينا بعدهم.
وكثيراً ما طرح ممثلون عن العرب والمسيحيين والأرمن والعلويين والأزيديين والكرد هذه الفكرة، وأعرب قليلون منهم عن ثقة كبيرة في أقوال السلطات الجديدة بدمشق.
غير أن الإحساس الغالب هنا هو أن المنطقة قد مسحت عن الخريطة الاقتصادية، إذ بالرغم من الأخبار التي وردت عن وجود عدد كبير من عصابات التهريب فيها، بقيت معظم المحال التجارية مغلقة، والجميع هناك يعتمد على مولدات كهرباء بدائية، وقلة قليلة من الناس تمكنت من تركيب ألواح طاقة شمسية.
في الليل، بوسعك رؤية أضواء قليلة في الشوارع، كما أن المنطقة تعاني من شح في المياه، تلك المنطقة التي كانت خلال فترة من الفترات سلة القمح بالنسبة لسوريا، ثم حلت محلها حوران في الجنوب منذ خمسينيات القرن الماضي، ولذلك بقيت الأراضي الزراعية الخصبة المنبسطة فيها بلا أي حراثة اليوم.
العقوبات الخانقة
أسباب كثيرة ذكرت لتعلل هذا الوضع الكارثي، وعلى رأسها الحرب، والعمليات التركية، ومحاربة تنظيم الدولة، غير أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ليست بريئة هي أيضاً، إذ أكدت منظمات حقوقية ظهور مشكلات كبيرة تتصل باحتجاز ناشطين سياسيين وتجنيد الأطفال منذ سن الثانية عشرة، وذلك على يد فصائل تتبع لقسد.
تقع القامشلي والحسكة على جبهة هذا الصراع، إذ ما يزال تنظيم الدولة يمثل تهديداً حتى اليوم، بعد أن نفذ نحو 300 هجمة خلال العام المنصرم، أي بنسبة تفوق ضعف الهجمات التي نفذها التنظيم خلال العام الذي قبله.
تسهم العقوبات الأميركية والأوروبية هي أيضاً في خنق الاقتصاد السوري، إذ لا يمكن لأي جهة أن تستثمر هنا إلا بعد أن ترفع العقوبات الأميركية عن البلد.
يشتعل لهيب النفط في تلك المنطقة التي يضطر سكانها لاستخدام طرق بدائية من أجل استخراج الموارد، ولهذا بوسعك أن تشم رائحة النفط المنتشرة في الهواء في كل مكان، وهنا ما لا إلا أن تتخيل حجم الأضرار الصحية والبيئية التي تخلفها تلك الممارسات.
أما على المستوى الإنساني، فقد اشتكى كثير من الناس من انقطاع المعونات الدولية، بما أن المنظمات غير الحكومية قد صرفت تركيزها نحو دمشق، على الرغم من أن الاحتياجات هائلة في هذه المنطقة، كما أن نصف الشعب السوري مايزال يعاني من انعدام الأمن الغذائي.
في مختلف أرجاء هذه المنطقة الواقعة في الشمال، تنتشر مخيمات لكل من اللاجئين والنازحين داخلياً، ومعظم هؤلاء فروا منذ فترة قريبة بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد وبدء العمليات التركية.
أما وجود العناصر الفاعلة الخارجية فيعتبر استثنائياً، فقد مررنا بقاعدة روسية في مطار القامشلي، وبعد ذلك بقليل مررنا بقاعدة أميركية، وماتزال الدوريات العسكرية الروسية تسير على الطريق الدولي الرئيسي، إذ أين يمكنك أن ترى القوات الروسية والأميركية قريبة من بعضها إلى هذا الحد؟
أعلنت الولايات المتحدة أنها ستخفض عدد قواتها في سوريا، وستغلق ثلاث قواعد من أصل ثمان في شمال شرقي البلد، غير أن كثيرين يعتبرون وجودها ضرورياً بالنسبة للتحالف من أجل محاربة تنظيم الدولة، ونظراً لوجود عشرة آلاف مقاتل تابعين لتلك الجماعة مايزالون محتجزين في شمال شرقي سوريا.
يعتبر الوجود العسكري الأميركي بمثابة ردع لتنظيم الدولة الذي يحاول اقتناص أي فرصة ليظهر من جديد، كما يعتبر الوجود الأميركي بمثابة عامل صد يقف أمام القوات المدعومة تركياً والجماعات الكردية ويمنع كلا الطرفين من الاقتتال، ولكن في نهاية الأمر، فإن الشعب السوري يريد لكل القوات الأجنبية أن ترحل عن بلده.
بارقة أمل
أثناء زيارة لتلك المنطقة، تمثل التقييم المتفائل وقتئذ بوقف إطلاق النار مع تركيا لأكثر من ثلاثة أسابيع، وبذلك توقفت الهجمات بوساطة المسيرات، وأصبح نهر الفرات يمثل اليوم الحدود بحكم الأمر الواقع ما بين المناطق التي تسيطر عليها قسد وتلك التي تخضع لسيطرة القوات المدعومة تركياً.
ظهرت بارقة أمل أخرى عند توقيع اتفاقية بين دمشق وقسد في آذار الماضي، إذ سعى المجلس الوطني الكردي وغيره من الأحزاب لتحقيق أمور بناء على تلك الاتفاقية، إلا أن الشقاقات الكبيرة ماتزال قائمة.
ذكر قائد قسد، مظلوم عبدي، وهو شريك مهم بالنسبة للولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم الدولة، بأن الاجتماعات التي عقدت مؤخراً مع السلطات في دمشق جرت بشكل جيد، وذلك في الوقت الذي حلقت مروحيات أميركية في الجوار ضمن ما بدا وكأنه تدريبات عسكرية.
أعرب عبدي نفسه عن تفاؤله بعد إحراز هذا التقدم مع تركيا، والتي تعتبر قسد تنظيماً إرهابياً وفرعاً من فروع حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا. وفي الوقت الذي وصف عبدي التهديد التركي بأنه “تحد وجودي” بدا هذا الرجل عازماً وبشدة على تحقيق تقدم مع كل من دمشق وأنقرة.
وتفاؤله هذا قد يكون في محله تماماً، وذلك لأن زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، وهو الزعيم الروحي والسياسي لكثير من الكرد في سوريا، طالب الحزب بنزع سلاحه في شباط الفائت.
تعتبر تلك فرصة لإنهاء النزاع داخل تركيا والذي أسفر عن مقتل 40 ألف إنسان على مدار أربعين عاماً، كما قد يخلف ذلك تبعات هائلة على الأكراد السوريين والعراقيين، غير أن السلام الحقيقي لابد أن يطمئن القيادة التركية.
قد يسهم إنهاء الاقتتال في الشمال السوري بتعزيز فرص البلد في مجال الاستقرار على المدى البعيد، وذلك أمر مهم بالنسبة لجميع العناصر الفاعلة الأجنبية، ابتداء من الشرق الأوسط، وصولاً إلى أوروبا.
لذا، فإن ما يحتاج إليه الأمر الآن هو تخفيف العقوبات بهدف خلق أفق سياسي واقتصادي ملموس، لأن ذلك قد يؤدي في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً إلى توجيه ضربة قاصمة للجماعات المتطرفة، مثل تنظيم الدولة، كما سيمنح السوريين الراغبين بالعودة إلى وطنهم شيئاً من الثقة واليقين بإمكانية تحقيق ذلك.
أي أن الطريق مايزال طويلاً ومليئاً بالحفر، لكن الرحلة تستحق المغامرة بكل تأكيد.
المصدر: The Middle East Eye
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية