جدول المحتويات
«نبض الخليج»
في الجزء الثاني من مذكراته الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يقدم فاروق الشرع رواية فريدة ومثيرة عن شخصية بشار الأسد، لا بوصفه رئيساً فقط، بل كشخصية تحمل اضطراباً نفسياً خطيراً، حيث دأب بعض الكتاب والمعلقين الاستراتيجيين على وصف هذه الحالة بـ “الانفصال عن الواقع”، وآخرون بـ “الشعور بالعظمة”، الذي قد يصيب بعض الحكام الذين لا يتخلون عن كرسي السلطة، بذريعة أن هناك قضايا كبرى بانتظارهم.
هذه الحالة يطلق عليه الشرع اسم “السيكوباتية السياسية”، والتي يؤكد الشرع أنه أدرك متأخراً خلال سنوات “الأزمة” أن بشار الأسد لديه الكثير من الأعراض النفسية المتعلقة بهذه الحالة.
ما يمنح هذه الشهادة ثقلاً خاصاً ليس فقط مكانة الشرع السياسية والتاريخية، بل أيضًا دقة وصفه لملامح شخصية عاش بجانبها طويلاً، وراقبها عن قرب خلال أخطر فترات سوريا المعاصرة.
ماهي السيكوباتية السياسية؟
تُعرف مراجع علم النفس “السيكوباتية” بشكل عام بأنها اضطراب نفسي معقد يتسم بعدم مراعاة المشاعر والأفعال، والافتقار إلى الندم، والسلوك العدواني، والتلاعب بالآخرين، ومع ذلك الأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب غالبًا ما يكونون جذابين وساحرين في البداية، لكنهم يظهرون سلوكًا مدمرًا وعلاقات مضطربة بشكل معقد.
أما في مجال السياسة فغالباً ما تنطبق هذه الصفات على القادة والزعماء الذين يتعاملون مع الكوارث التي تحل بشعوبهم ببرود أخلاقي مريع، وهو ما يُعرف بالـسيكوباتية السياسية Political Psychopathy)).
ويظهر هؤلاء الزعماء السيكوباتين بمظهر القادة الأقوياء، لكن قراراتهم تقود مجتمعاتهم نحو الخراب، لأنهم لا يرون البشر إلا أدوات أو أرقاماً في معادلات السلطة. ويشير علماء النفس السياسي إلى أن السيكوباتيين السياسيين يفتقرون إلى الشعور بالخوف من العواقب، ويتلذذون بالسيطرة والهيمنة، ويعتبرون أنفسهم الأذكى والأكثر فهماً، بينما يُسقطون فشلهم على المحيطين بهم.
في هذا السياق، لا يبدو وصف الشرع لبشار الأسد وصفاً مبالغاً فيه، بل أقرب إلى التشخيص السريري، فهو كما يقول لم يكن يُظهر أي مشاعر تجاه معاناة ملايين السوريين، ولم يرفّ له جفن وهو يرى المدن تتساقط تحت قصف الطيران والبراميل.
نرجسية قاتلة
لم يكن بشار الأسد مجرد حاكم مستبد، بل شخصية أسيرة لنرجسية عميقة، تغذيها الحاجة المستمرة إلى الإعجاب والتقدير، لا إلى الفعل الرشيد أو الإصلاح الحقيقي، فالرئيس السوري الذي درس الطب في لندن، عاد ليقود بلداً متنوعاً، لكنه لم يفكر يوماً في استخدام خبراته الإدارية أو العلمية لخدمة شعبه، بل استخدمها لتسويق صورته
يروي الشرع أن الأسد تعاقد مع وكالات إعلامية غربية لإبراز صورته كقائد عصري، وحرص على أن تتصدر صور زوجته المجلات الأوروبية. كانت هذه الحملات مدفوعة الثمن، وقد بلغت حدًّا من الهوس جعل الإعلام الرسمي يقدّم اسم الرئيس وزوجته على اسم الدولة نفسها، حتى في نشرة الأخبار.
هذه النرجسية بلغت ذروتها حين قرر وضع صورته على الليرة السورية، رغم الانهيار الاقتصادي، في مشهد فاضح لانفصاله عن معاناة المواطنين، ودونما اكتراث ـيضيف الشرع ـ أن النظام دفع من دم السوريين في حربه ضد المؤامرات الدولية أكثر مما دفعه السوريون في حروبهم من أجل فلسطين.
يرى الشرع أن الأسد كان يفتقر لأي حس بالتعاطف أو التفاعل مع مشاعر الناس وآلامهم. كان لا يشعر بالخوف من العواقب، ولا بالندم على الأخطاء، ولا بالمسؤولية تجاه المآسي التي تعصف بسوريا. هذه الصفات، التي قد يُنظر إليها أحياناً على أنها “صلابة في القيادة”، تحولت تحت ضغط الواقع إلى قرارات كارثية أدت إلى خراب البلاد.
انفصال عن الواقع
من أبرز ما يلاحظه الشرع أن الأسد، خلال سنوات الحرب، كان يعاني من “انفصال عن الواقع”، وهي سمة محورية في الشخصية السيكوباتية لم يكن يشعر بالخطر أو المسؤولية رغم حجم الكارثة التي كانت تعصف بسوريا، بدا وكأنه في عالم آخر، غير معني بمصير ملايين السوريين الذين تشردوا أو فقدوا أبناءهم أو عاشوا تحت القصف.
يذكر الشرع أن الرئيس كان يمارس العناد في غير محله ويتراجع عن قرارات أو مراسيم كان قد طلبها من وزرائه بسرعة قياسية، ثم يلغيها قبل أن يجف حبر توقيعه عليها. ظهر ذلك جلياً في طريقة تعامله مع المبادرات السياسية، ومنها مبادرة “الحوار الوطني” التي أطلقها بنفسه، ثم تراجع عنها دون أي شعور بالمسؤولية، وكأن القرارات التي يتخذها لا تلزمه، بل هي أداة لتجاوز اللحظة، ثم القفز إلى ما بعدها دون تحمل أي تبعات. هذا النمط من السلوك، القائم على التجاهل والتراجع، يعكس شخصية غير قادرة على الالتزام، ترى الآخرين أدوات، وترى نفسها فوق المحاسبة.
لقد تحولت مؤسسات الدولة إلى هياكل شكلية، بينما القرار الفعلي محصور في دائرة ضيقة يهيمن عليها رئيس منفصل عن الواقع، لا يرى المواطنين كمواطنين، بل كورقة ضغط أو وسيلة للدعاية. وبحسب الشرع، فإن حتى سائقه الشخصي اختفى في أقبية الأمن، ولم يستطع معرفة مصيره. فإذا كان نائب الرئيس نفسه لا يستطيع استرداد سائقه، فكيف بباقي المواطنين؟ يتساءل الشرع.
الزهو بالخراب
ربما أكثر ما يثير القلق في سرد الشرع هو وصفه لحظة خروج الأسد إلى شرفة قصره في دمشق عام 2016، مبتهجاً بما أسماه “استعادة حلب”. لم يكن ذلك الانتصار سوى ثمرة لتدخل روسي مباشر، جاء على أنقاض مدينة دمرت عن بكرة أبيها.
وفي خضم ذلك لم تكن سوريا “تنتصر”، بل كانت تُسحق، فالمنتصرون الحقيقيون، كما يقول الشرع: هم روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة، بينما خسر السوريون كل شيء. لقد تحول بشار الأسد إلى تجسيد للسيكوباتية السياسية، ليس فقط بقراراته، بإصراره على إنكار الكارثة، والتصرف كما لو أن شيئاً لم يكن ومع ذلك تصرف الأسد وكأنه القائد الفاتح، لا كمن تسبب في خراب مدينة عريقة.
يقول الشرع إن الأسد بدا منتشياً، وكأن ما قبل حلب ليس كما بعدها، بل شبهه بـ “تقويم ميلادي جديد” هذه المبالغة في الاحتفاء بالدمار، والانفصال العاطفي التام عن معاناة الناس، دليل إضافي على افتقاد الأسد للمشاعر الإنسانية العادية، فكيف بمشاعر المسؤولية الوطنية؟ ويعلّق الشرع بمرارة على هذه اللحظة قائلاً: “كانت المدينة قد دُمّرت، أهلها تشردوا، والمباني سويت بالأرض، فبأي معيار يمكن لرئيس أن يراها انتصاراً؟”.
هولاكو سوريا
في وصف لافت، يقول الشرع في مذكراته إن “هولاكو لم يفعل ببغداد ما فعله بشار بسوريا”، وهي مقارنة تُفصح عن حجم الكارثة في ذهن من عاش في قلب السلطة. فهولاكو، الذي اجتاح بغداد عام 1258 وذبح سكانها وهدم مكتباتها، كان رمزًا تاريخيًا للوحشية والانهيار الحضاري. لكن الشرع يرى أن الأسد تجاوزه في المأساة، فهو لم يدمّر مدنًا فقط، بل نسف مفهوم الدولة، وجعل سوريا ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وسلّم القرار الوطني إلى الروس والإيرانيين، مقابل بقائه على كرسي الرئاسة، “فالطغاة يجلبون الغزاة” على حد قول الشرع.
ويذهب الشرع إلى أبعد من ذلك حين يؤكد أن عصر هولاكو في الماضي، كان أكثر رحمة من هذا العصر الحديث، فهولاكو لم يكن قادرا على الفتك بالبشر والحجر بمقذوف كيماوي مزعوم مجهول المصدر، ولم يكن في استطاعته تدمير مئات البيوت وتحويلها إلى ركام في لحظات، لعدم توفر أنواع مبتكرة من البراميل المتفجرة تهبط من السماء، أو من صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت بأكثر من مرة.
حين يفهم الحلفاء سيكوباتية الحاكم
ليس من الضرورة أن يفهم الشعب صفات الحاكم السيكوباتي بدقة، أو أن يملك أدوات التحليل النفسي لفهم سلوكه، لكنّ الحلفاء الكبار يعرفون تمامًا مع من يتعاملون. وهذا ما بدا واضحًا في العلاقة المعقدة التي نسجها الروس والإيرانيون مع بشار الأسد، منذ اللحظة الأولى لانفجار الثورة السورية. فبعكس ما فعلته الدول الأخرى (أميركا إلى أوروبا وتركيا ودول الخليج) التي تعاملت مع المشهد السوري كرد فعل على تطوراته، أظهرت موسكو وطهران فهماً مبكراً وعميقاً لطبيعة الأسد النفسية، وتعاملا مع شخصه كمفتاح للسيطرة لا كشريك ندي.
لقد أدركت روسيا وإيران أن الأسد لا يشعر بالمسؤولية تجاه كل السوريين، وأنه لا يرى فيهم شعباً موحداً، بل خريطة موزعة على ولاءات ومناطق. كما لمسوا فيه انعداماً للتعاطف مع المعارضين أو المنكوبين، هذه السمات السيكوباتية لم تكن عبئاً في نظر الحلفاء، بل كانت ورقة رابحة، استخدموها بدهاء لتثبيت مصالحهم.
في مذكراته، يلمّح فاروق الشرع إلى هذا الفهم العميق حين يشير إلى أن “الدولتين الوحيدتين اللتين تابعتا تفاصيل الحياة السورية وكأنها شأناً داخلياً لديهما، هما روسيا وإيران”، بل إن “رهاناتهما على سورية لم تُستمد من حسابات جيوسياسية بقدر ما استندت إلى فهمهما لطبيعة بشار الأسد”. وهذه العبارة تكشف بوضوح أن الحلفاء لم يتعاملوا مع النظام السوري فحسب، بل حاكم مستعد لحرق بلده مقابل أن يبقى في كرسيه إلى الأبد.
في وصف الشرع، لم يكن بشار ديكتاتورًا فقط، بل كان مصابًا باضطراب نفسي خطير جعل من الكرسي مرآة لأوهامه، ومن الشعب وقودًا لطموحاته المريضة. وإن كانت نهاية الأسد قد وقعت، فإن آثار سيكوباتيته لا تزال محفورة في كل مدينة مدمّرة، وكل بيت مفجوع، وكل عائلة سورية تبحث عن أثر من ماضٍ لم يبقَ منه سوى الندم.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية