جدول المحتويات
«نبض الخليج»
تحتاج سوريا اليوم، بعد إسقاط نظام الأسد، إلى أغنية جديدة تعبر عن وجعها، عن مأساتها، عن شعبها الذي قاوم رغم كل القمع والتنكيل، وما زال يرفض الاستسلام. أغنية ليست مجرّد لحن حزين، بل صرخة تُولد من الرماد، تتجاوز الانقسام والتشظي، وتجمع السوريين تحت ظل ذاكرة واحدة وأمل مشترك. لم يعد كافيًا إعادة تدوير الأناشيد التقليدية أو المقاطع الثورية الأولى، فالثورة التي نضجت بالتضحيات وتعرّضت لخيانات كثيرة، بحاجة لصوت يعيد رسم صورتها في وجدان الأجيال الجديدة.
صوت يُدين القتل والخذلان، ويحتفي بالثبات والصمود، يُعرّي القتلة، ويُسمع العالم أن السوريين لم يموتوا، بل ينتظرون من يغني لهم الحقيقة. لا بد من ولادة أغنية وطنية سورية تنبع من واقع الثورة وتجسّد آلام من فقدوا أحبابهم تحت التعذيب، وتروي حكايات التهجير والخيام، وتقف في وجه من حاول مصادرة الحلم أو تسويقه. أغنية تتجاوز الأيديولوجيا والطائفية والخطابات الفارغة، وتُعيد الكرامة إلى وجوه أُطفئت فيها الحياة قسرًا.
سوريا بحاجة إلى صوت مثل صوت الشيخ إمام حين غنّى من الزنزانة، أو مثل صرخة بوب مارلي حين صاح: “انهض وقف”، أو مثل أغنية “يا حيف” التي أطلقها سميح شقير فدوّت في ساحات الثورة. لكن اليوم، هناك حاجة لأغنية جديدة تُكتب الآن، وتغنّى الآن، وتقول للعالم: نحن ما زلنا هنا، رغم الموت، رغم الغياب، رغم الخذلان. من يغني لسوريا الآن؟ من يتقدم ليصوغ ألمها لحنًا لا يُنسى؟
لكن، من أجل أن تولد هذه الأغنية المنتظرة، لا بد أن نعود إلى تجارب الشعوب التي غنّت قهرها، واستخدمت الفن كسلاح في وجه الأنظمة القمعية. فالتاريخ مليء بنماذج لأغانٍ تخطت حدود الفن إلى ساحة الفعل، وكانت لحنًا للثورات ونداءً للحرية. من جنوب أفريقيا إلى أميركا اللاتينية، ومن إيرلندا إلى العالم العربي، تكرّس الغناء كأداة احتجاج وصمود، وكصوت يعبّر حين تصمت الشعوب تحت وطأة الرعب.
بوب مارلي وبينك فلويد.. الأغنية أسلوب للتمرد
عندما تُطبق الحكومات قبضتها، وتكمّ الأفواه الصارخة في الساحات، يتفرد الفن الغنائي بكونه أسلوباً احتجاجياً ومتمرداً، يحكي صوت الشعوب المقهورة والمهمشة عن طريق كلمات وألحان تنفذ ليس فقط من رقابة السلطات وإنما من جدران السجون أيضاً. عندما ساهمت الأغنية في إشعال روح التمرّد في عام 1980 صدحت أنغام أغنية Another briek in the wall من ألبوم The wall للفرقة الإنكليزية pink Floyd، ليس في بريطانيا وإنما في جنوب أفريقيا عندما أصبحت نشيداً للطلاب أصحاب البشرة السمراء الّذين تظاهروا ضد نظام التعليم العنصري الّذي فرض عليهم، حيث فرضت اللغة الأفريكانية في المدارس والجامعات وهذا ما اعتبر شكلاً من أشكال القمع الثقافي والتمييز العنصري، حظرت الحكومة في جنوب أفريقيا الأغنية وهذا ما زاد من شعبيتها، ترددها الطلاب في الاحتجاجات والتظاهرات وأصبحت كشعار مقاومة ضد السيطرة الفكرية والثقافية.
https://www.youtube.com/watch?v=videoseries
لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، أن تتحول أغنية لأداة تدعم الحركات المناهضة للقمع والظلم، ففي عام 1973 قام المغني الجامايكي بوب مارلي بجولة في هاييتي، ورصد آنذاك الفقر والقمع والتهميش الذي يتعرض له سكان هذه المنطقة، وعند عودته كتب أغنية Get up, stand up، والتي أصبحت بمثابة نشيد للنضال من أجل حقوق الإنسان، حيث انتشرت الأغنية على نطاق واسع ورافقت الحركات الاحتجاجية الرافضة للفقر والقمع في الكاريبي، والولايات المتحدة، وأفريقيا. في 30يناير عام 1972 أطلقت القوات البريطانية النار على متظاهرين سلميين فير أيرلندا مما أسفر عن مقتل 14 مدنياً وسميت آنذاك مجزرة الأحد الدامي، وبعد أكثر من 10 أعوام قامت فرقة U2 بكتابة أغنية Sunday bloody Sunday عام 1983 والتي استحضرت ذكرى المجزرة وكانت تحمل معاني الألم والغضب ومناشدة لوقف العنف الطائفي، حيث تضمنت الأغنية كلمات How long must we sing this song? وهي صرخة احتجاج ضد تكرار المآسي دون نهاية، على الرغم من أن الأغنية صدرت بعد مرور عشرة أعوام على المجزرة إلا أن الايرلنديين كان لديهم تخوف كبير من كلماتها واعتبارها اغنية متمردة، ولكنها سرعان ما تحولت إلى واحدة من الأغاني المهمة التي نادت لوقف الحروب والعنف السياسي.
الشعر المحكي والأغنية السياسية العربية
الشعر المحكي العربي هو أساس الأغنية السياسية في الوطن العربي كان للشعر المحكي دوراً مهماً في زيادة وعي الشعب وحثّه على رفض الظلم ومقاومة الاستبداد سواء كان من المحتل أو من السلطات الحاكمة، حيث كانت أداة تعبير مرّة تستطيع النفاذ من رقابة الدولة، إذ أنها لم تنشر في الصحف ولم تبثّ في الإذاعات، بل كانت تلقى في المقاهي والحارات والسجون، وتحفظها الألسنة وترددها عن ظهر قلب.
من بين أولئك الشعراء الشاعر المصري الصعيدي عبد الرحمن الأبنودي، الذي كان من أوائل الشعراء الذين كسروا احتكار الفصحى للشعر الجاد، وكتب قصائد بلغة الفلاحين والمتعبين والمهمشين، ووصلت قصائده إلى كل بيت في مصر، تعرض الأبنودي للاعتقال في ستينيات القرن الماضي بسبب قصائده السياسية والتي اعتبرت مسيرة للسلطة، وكذلك بسبب علاقاته بمثقفين ماركسيين أمثال أحمد فؤاد نجم. لم يمنع السجن الأبنودي من كتابة القصائد، ألف عددا من القصائد انتشرت بين المعتقلين شفهياً، ومنها قصيدة “جوابات حراجي القط”، تنوعت قصائده بين الشعر الناقد للسلطة السياسية مثل “إحنا ولاد الكلب الشعب” وبين الشعر المقاوم ” الأرض بتتكلم عربي”، وقصيدة “المخطوف” التي تحدث فيها عن الغائبين في السجون والمعتقلات.
لم يكن الأبنودي المثال الوحيد في الشعر المحكي، فكان مريد البرغوثي في فلسطين، ومظفر النواب في العراق الذي كتب المحكي والفصحى، وأدت قصائده التي حملت أسلوباً قاسياً إلى نفيه وملاحقته لعقود حتى وفاته، وفي لبنان كان سعيد عقل وغيره كثر الذين كتبوا قصائد تندد بالاقتتال الطائفي أثناء الحرب الأهلية. الأغنية الثورية والسياسية في ثنائية الشيخ إمام وأحمد نجم بعد ذلك تحوّلت الكثير من القصائد المحكية إلى أغانٍ ساعدت في انتشارها على نطاق أوسع، وربما من أشهر ثنائيات الشاعر والمغني فكانت ثنائية أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، اللذان جمعتهما صداقة قوية، وذاع صيتهما بعد أغنية “أنا توب عن حبك أنا؟”، إضافة إلى الأغاني العاطفية مهد الثنائي لبداية نوع جديد من الأغاني النقدية والملتزمة في آن معاً حيث لم يك متعارفاً عليه، فبدأ نجم والشيخ إمام بإصدار أغانٍ تحمل طابعا ساخرا ونقديا موجه ضد السلطات والسياسات الظالمة.
في البداية فتحت أبواب الإذاعات أمام الثنائي وبثت العديد من الأغاني عن طريق الإذاعة والتلفزيون المصري وكذلك الحفلات المنظمة من قبل النقابات التابعة للحكومة، ولكن لم يدم الأمر طويلاً وشعرت الحكومة بأن أغاني الثنائي بدأت تشكل خطراً عليها، فألقي القبض على الاثنين عام 1969 واتهما بتعاطي الحشيش، وبعد إطلاق سراحمها لعدم كفاية الأدلة، استمرت ملاحقة السلطات لهما، وقبض عليهما بعد فترة وحكم عليهما بالسجن المؤبد في فترة حكم أنور السادات، حيث قال السادات: “أنهما لن يخرجا إلا على جثته”، أي بعد موته.
https://www.youtube.com/watch?v=videoseries
لم يشكل السجن عائقا أمام الإثنين على الرغم من التوصيات بفصل كل منهما في زنزانة منفردة، ومنع توفر ورقة أو قلم لدى أحمد فؤاد نجم، ولكنه استطاع أن يحفظ ويردد القصائد شفهياً ومن ثم ينقلها للشيخ إمام عندما يخرجان للتنفس في ساحة السجن، ويقوم بتلحينها بدوره، وكانت أغنية “شيد قصورك” أكثر الأغاني شهرة والتي كتبت من خلف قضبان السجن، وكانت بمثابة تحدٍ صارخ للفترة التي حكمت مصر من قمع سياسي وقمع للحريات. وكانت أغنية “جيفارا مات”، ذات الطابع الملحمي أكثر من مجرد أغنية ترثي مناضل، بل كانت دعوة لليقظة وعدم الانجرار وراء المناضلين المزيفين الذين يدعوّن النضال والمقاومة، وإشارة إلى افتقاد المشهد العربي لنموذج مشابه لجيفارا، فختم الأغنية بكلمات مناشدة ومعاتبة في آن معاً، “يا اتجهزوا جيش الخلاص، يا تقولوا عالعالم خلاص.” إن الأغاني التي قدمها نجم والشيخ كانت مواكبة لكل حدث وتطور سياسي واجتماعي تشهده مصر أو المنطقة ككل، فكانت أغنية “الحمدلله خبطنا” التي انتقدت نظام جمال عبد الناصر بعد هزيمة حزيران عام 1967، وأغنية “شرفت يا نيكسون بابا” بعد زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمصر.
ربما أكثر ما يجعل أغاني الثنائي باقية إلى الآن ومرافقة لكل الثورات والحركات الاحتجاجية، هي الروح التي غنى فيها الشيخ إمام والتي حملت مشاعر الحزن حد النواح، ومشاعر السخط والسخرية حد القهقهة فكانت تسجيلات أغانيه ملامسة لمشاعر ووجدان كل من يسمع أغانيه.
في لبنان كان الغناء السياسي المقاوم حاضراً بقوة، مارسيل خليفة الذي مثّل صوتاً مقاوماً راسخاً في بداياته، وخاصة بعد تلحينه لقصائد الشاعر الراحل محمود درويش مثل “أحنّ إلى خبز أمي” و”منتصب القامة أمشي”. من جهة ثانية كان زياد الرحباني نموذجاً عربياً فريدا حيث قدم من خلال فنّه ليس فقط أغانٍ ثورية بل مسرحيات ناقدة للواقع الطائفي والسياسي في لبنان بطريقة مباشرة ومغايرة للنموذج الذي قدمه الأخوين رحباني الذي اتسم بأسلوب توعوي وحالم، قبل أن تغيب الأغنية السياسية عن لبنان بشكل يمكن أن يكون كاملا.
سميح شقير وياحيف
سميح شقير صوت الشارع السوري فعلى الرغم من النظام الديكتاتوري الذي حكم البلاد منذ سبعينيات القرن العشرين، إلا أن نماذج فنية ثائرة تفلتت وحملت في أغانيها رسائل سياسية ناقدة للنظام المخلوع، ومنها الفنان سميح شقير الذي تميز بأغانيه الثورية والمقاومة وخطه الملتزم وانحيازه الدائم للقضايا العادلة والإنسانية في كل مكان، منها أغنية “لا ما ننسى” عن القضية الفلسطينية وأغنية “جولان” و”رمانة” و”هي هي يا سجانة” وكذلك أغنية “حصار بيروت” التي عبرت عن صمود أهل بيروت في فترة الحصار، وبعد اندلاع الثورة في سوريا عام 2011 أصدر أغنية “يا حيف”، والتي باتت من الأغاني التي حفرت عميقاً في ذاكرة الشباب السوري، وكانت تحية لأطفال درعا في بداية الثورة، وكانت آخر أعمال الفنان سميح شقير أغنية “مزنّر بخيطان”، تنديداً بالانتهاكات والمجازر التي ارتكبت في الساحل السوري في مطلع الشهر الثالث من العام الحالي.
https://www.youtube.com/watch?v=videoseries
الموسيقى البديلة وانتقاد السلطة
تغيّر النمط الموسيقي تناسباً مع العصر على الرغم من أن النماذج المذكورة سابقاً، كانت تعتبر أمثلة عن الفن الملتزم من خلال ألحان وكلمات تحمل بعداً ثقافياً وسياسياً مهماً، ولكن مع مطلع التسعينيات وبداية الألفين ظهرت ما يسمى بالموسيقا البديلة سواء عن طريق فرق موسيقية مجتمعة أو أفراد منها فرقة “كلنا سوا” و”جين” و”طنجرة ضغط” والتي تضمنت أغانيها رسائل تعبر عن حالة الشباب السوري والعربي بشكل عام، وتعرضه للقمع والضغوط الاجتماعية التي يعاني منها، حيث اضطر أفراد فرقة “طنجرة ضغط” لمغادرة البلاد في بداية الثورة هرباً من الخدمة العسكرية الإجبارية.
وإلى جانب الموسيقا البديلة كان هناك فنانون اتبعوا نمط الراب في الأغاني ومنهم الشاب المعروف باسم “بوكلثوم” الذي هاجر إلى هولندا بعد معاناته مع صدمة نفسية إثر الأحداث الدامية في سوريا، وبدأ بإصدار أغاني راب تعبر عن معاناته في الغربة وحنينه للوطن وانتقاده لواقع الشباب السوري.
وفي مصر كان رامي عصام من أبرز النماذج التي انشهرت بعد الثورة في مصر، تعرض رامي للملاحقة والاعتقال بسبب أغانيه، فقرر مغادرة مصر واستمر بتقديم فنّه الثوري والمقاوم، من أغانيه “في سكوتي موتي” التي كتبها الشاعر المصري جلال البحيري في سجن بدر بمصر، وألف جلال القصيدة عندما بدأ إضرابه عن الطعام في آذار 2023 بمناسبة مرور 5 سنوات على اعتقاله، وكذلك أغنية “مقاومة” المهداة للمقاومة الفلسطينية.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية