«نبض الخليج»
بعد الأحداث الأمنية المؤسفة في الساحل السوري قبل بضعة أشهر، تواصلت الخلافات بين القيادة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ثم جاءت أحداث السويداء في جنوبي سوريا لتكون شاهدة على استمرار المآساة السورية بعد معاناة استمرت لسنوات من ويلات إجرام نظام الأسد البائد.
والفارق اليوم أن حالة الخلافات الحالية تنذر بمزيد من التشظي المجتمعي. وليس سراً أن نشوة الفرح بسقوط نظام الأسد كانت مصحوبة بقلق من المستقبل، فالتوترات التي نشهدها اليوم هي أعراض متوقعة لمخاض ولادة عسير للدولة السورية الجديدة. لا نهدف في هذه المقالة لتوصيف ما يجري لأننا نعتقد أن في ذلك مضيعة للوقت، فالجميع يعرف أن البلد يشهد أزمة سياسية وأمنية حقيقية، ولا بد من العمل لمواجهتها ومنع تفاقهما. كما لن ندخل في تفاصيل التدخلات والتحديات الإقليمية والدولية الخارجية، انطلاقاً من القناعة الراسخة بأن مشروع الدولة هو مشروع سوري خالص لن يقوم به إلا السوريون أنفسهم بشرط توفر الإرادة القوية لذلك. بناءً عليه، سنحاول الدخول في عمق أسباب الأزمة (وليس توصيفها) لتعريف أصلها، ما قد يساعد في تحديد الأدوات لمعالجتها. باختصار، نسعى لوضع إصبعنا على الجرح السوري، لتحديد موطن الأزمة وتبعاتها والمخارج المستدامة منها.
بدأت ملامح الطائفية المستترة تتكشف مع انطلاق الثورة عندما استشعر نظام الأسد أن وجوده أصبح مهدداً، فاهتزت بنية النظام بسبب محاولة الطوائف والمكونات التفكير بمصالحها بمعزل عن النظام، ما أحدث أول صدع حقيقي في بنية نظام الحكم.
الطائفية وانسداد المشروع الوطني
إذا أردنا تصدير قراءة تقديرية عميقة للواقع السوري الراهن، فإننا نجد أنفسنا مجبرين على مواجهة إرث ثقيل من الإشكاليات التي لا مفر من معالجتها بشكل مباشر من دون مراوغة بالكلمات، والطائفية هي واحدة من أهم هذه الإشكاليات التي لا يمكن تجاهلها. بالفعل، يصعب إنكار وجود مشكلة طائفية في سوريا، لكنها ليست وليدة اليوم، إنما قديمة متراكمة منذ عقود وتنامت وتجذرت في ظل حكم الأسدين الأب والابن كونها كانت “العصبية” – وفقاً لمصطلح ابن خلدون – التي قادت لبناء منظومة سياسية أساسها الانتماء الطائفي وليس الوطني. بهذه الطريقة، نجح الأسد الأب بخلق طائفية مستترة غير مُعلنة. والأسوأ أن النظام لعب على الوتر الطائفي بتولية شخصيات من الطائفة العلوية لمفاصل الدولة وأركان القيادة، وجذب أطراف من الأقليات الدينية والعرقية الأخرى ليشكل جماعة سياسية تمثل الأقليات بالدرجة الأولى لمواجهة الأكثرية السُنية التي كان يرى فيها تهددياً لوجوده.
نشدد هنا على أمرين: الأول أن هذا لا يعني التسليم بأن الأقليات كانت منخرطة في هذا التحالف الطائفي، لأن الأعضاء المتحالفين لم يمثلوا بالضرورة المكون أو الطائفة التي ينتمون إليها أو لأن النظام حصل على شرعيته من هذه المكونات بمجرد قبولها به من دون أن تكون جزءاً منه؛ والثاني أنه لا يمكن إنكار إجادة نظام الأسد للوجه القذر من اللعبة السياسية بجذبه لشخصيات من السُنة في محاولة منه لشرعنة سلطته. والمؤكد بطبيعة الحال أن مجرد نشوء هكذا تحالف كان تعبيراً عن الجو السياسي المشحون وعن غياب مشروع الدولة الوطنية آنذاك. كانت الوطنية مجرد شعار لا قيمة له أمام الواقع المرير المُعاش، وفي حين كانت السجون تعج بالناشطين السياسيين، كانت أدوات النظام الإعلامية تتغنى بالوطن وأكذوبة “الوطن للجميع”.
بدأت ملامح الطائفية المستترة تتكشف مع انطلاق الثورة عندما استشعر نظام الأسد أن وجوده أصبح مهدداً، فاهتزت بنية النظام بسبب محاولة الطوائف والمكونات التفكير بمصالحها بمعزل عن النظام، ما أحدث أول صدع حقيقي في بنية نظام الحكم وأبان الضعف والهشاشة المجتمعية التي تسبب بها نظام الأسد نفسه – وهذا يبرأ طبعاً الثورة من اتهامها بتأجيج الطائفية. كان هذا الصدع اجتماعياً بالدرجة الأولى، لأن حتى الشخصيات الرفيعة العاملة تحت أمرة نظام الأسد لم تكن مُمَثلة عن صوت أو موقف الطائفة بالمعنى الفعلي للكلمة.
بعد سقوط النظام، انكشفت طائفية النظام بشكل جليّ. فما يحدث اليوم هو استمرار لأزمة طائفية تتمثل بسعي كل طائفة للحديث عن نفسها وحقوقها بمعزل عن الوطن وعن بقية مكونات الوطن. يمثل هذا تهديداً للهوية الاجتماعية والثقافية والسياسية للدولة السورية، وتهديداً حقيقياً في استحالة التوصل لنوع من الإجماع السياسي إذا لم يتم حل الأزمة سياسياً وبما يتناسب مع طبيعة المرحلة والخصوصية السورية.
إن معالجة الأزمة الطائفية تتطلب شجاعة بالاعتراف بوجود الأزمة.
مسؤولية السلطة
في خضم هذا الوضع المتوتر، يتولد الشعور بأن السلطة السورية الجديدة تقف عاجزة أمام هذه الأزمة. قد نعذرها ونجد المبررات لها لأنها ورثت هذه الأزمة. لكن عليها أن تعي أن شرعيتها مرهونة بقدرتها على التعامل مع هذه القضية على وجه التحديد، لأن شرعيتها اليوم ليست شرعية ثورية فقط، إنما شرعية سياسية واجتماعية ووظيفية وخدمية.
إن معالجة الأزمة الطائفية تتطلب شجاعة بالاعتراف بوجود الأزمة. مارس نظام الأسد الكذب والتضليل كل الوقت بحديثه عن تماسك النسيج الوطني، وكان بالفعل متماسكاً، لكن بحكم القوة والكبت والقهر، فكان تماسكاً شكلياً كاذباً. لا ينبغي علينا اليوم التغني بالتماسك الوطني ونحن نعلم أنه غير موجود، بل ينبغي وضع سردية واقعية تعكس مشروعاً وطنياً حقيقياً قادراً على توليد الإحساس الوطني الجمعي. هذه مهمة القيادة السورية الجديدة، لأن ما نراه اليوم يؤكد أنه لم يتم ملئ الفراغ السياسي والأمني بشكل كامل بعد سقوط نظام الأسد.
لا يمكن الخروج من حالة الانسداد السياسي والتغلب على الفراغ السياسي والأمني إلا بانتهاج عقلية دولة حديثة تلبي طموحات المواطنين ومتطلباتهم وتصون حقوقهم وكرامتهم. يحتاج بناء هذه الدولة لعملية تمتد
لسنوات لتطوير المؤسسات ولدعم الوعي بالدولة، وهذه باعتقادنا مسألة في غاية الأهمية، لأننا لا نتردد في الزعم بأن سوريا اليوم تقف على عتبة المحاولة الأولى لبناء الدولة. ما كان موجوداً في عهد الأسد هو سلطة حاكمة قمعت الدولة وحولتها لأداة في يدها ثم أطلقتها ضد المجتمع، ونتج عن ذلك أن أصبحت الدولة مجرد مرادف للتعسف والطغيان.
يقع العبء الأكبر اليوم على السلطة السورية الجديدة التي أسقطت نظام الأسد ووضعت نفسها في موقع المسؤولية أمام الشعب السوري. وهي مسؤولة اليوم عن كل ممارسة أو عمل بصفتها ممثلة للدولة السورية. من المؤكد أن القيادة تحتاج لوقت لتدارك الأخطاء التي ارتكبتها في الأشهر الماضية، سواء تعلق ذلك بما سمته القيادة نفسها بـ “التجاوزات الأمنية الفردية” أو ببعض القرارات السياسية التي أثارت جدلاً في الرأي العام السوري (بعض التعيينات في المواقع والمناصب مثلاً)، علاوة عن إحجامها – حتى الآن – عن تقديم تصور واقعي وملموس عن شكل النظام السياسي المستقبلي.
ما نراه ضرورياً وحتى حتمياً اليوم هو أن تعيد القوى السورية الأيديولوجية التفكير بأفكارها ومشاريعها وخطاباتها لتتناسب مع الواقع الجديد.
وحتى يكون طرحنا منطقياً وموضوعياً، نميل للقول إن هذا التعثر طبيعي وكان ليحدث مع أية قيادة جديدة. ما نقصده هنا هو أن هذه الأخطاء ليست بسبب “إسلامية” القيادة الحالية كما يحاول البعض تصويره (وخاصة من الجناح المتطرف في اليسار الشيوعي السوري). وإذا كنا قد قلنا إن هذه القيادة ارتكبت وترتكب أخطاء وعليها أن تتحلى بالنزاهة والشفافية في علاقتها مع أبناء المجتمع، فإننا نقول بالوقت ذاته أيضاً إنه ينبغي على المعارضين لها أن يخرجوا من صناديق أوهامهم الأيديولوجية وأن يواجهوا الواقع بشجاعة كذلك. يمكن تفهم الموقف السياسي للمعارضين لوجود قوة إسلامية حاكمة، وهذا حق سياسي طبيعي طالما أنه في إطار التنافس السياسي، إلا أنه لا يجوز أن يكون هذا الحق مبنياً على الاعتقاد بأنه لا يحق للإسلاميين أن يكونوا في موقع الحكم، فهذا الاعتقاد يعني الخروج عن قواعد اللعبة السياسية الحرة والنزيهة وليس من الديمقراطية التي يتهمون الإسلاميين بإنكارها.
إن الواقع يوضح أن السلطة الحالية تتمتع بمقبولية لدى شريحة واسعة من المُكَوِّن السُنّي الذي يشكل الغالبية في المجتمع السوري، وفي حين أنه على السلطة إثبات أنها لا تمثل فقط السُنّة، بل كل السوريين، فإنه ينبغي على معارضيها الاعتراف والتصالح مع معطيات الأمر الواقع الذي تغيّر. ما نراه ضرورياً وحتى حتمياً اليوم هو أن تعيد القوى السورية الأيديولوجية التفكير بأفكارها ومشاريعها وخطاباتها لتتناسب مع الواقع الجديد. وكما أنه على الإسلاميين في السُلطة مراعاة التنوع المجتمعي والثقافي السوري في سياسات الحكم والقرارات، فإنه على المعارضين لهم تفهم وجود شريحة مجتمعية غير قليلة تؤمن بالمشروع الإسلامي
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية