«نبض الخليج»
حاولتُ إعادة ضبط لساني مجدداً، وكأنّ لوثةَ اللهجة الجزائرية كانت لا تزال تتمدّد لتصنع لهجةً توحي بالغرابة. أريد أن أعود سلمونيّاً خالصاً، أضغط على مخارج الحروف كمن يريد الإفراج عنها بعد سجنٍ لغويٍّ دام قرابة عشر سنوات في بلادٍ لا تعرف مصطلحاتنا الخاصة.
فكيف سأُقنع جزائرياً بأنّ الحارة “القبلية” هي جنوب المدينة؟ فحتى عقارب البوصلة تختلف، ورغم وحدة القبلة، إلا أنّ متاهات الجغرافيا تسعى لتحفظ خصوصيتنا.
لحظة اللقاء الأولى
استكانت الحافلة القادمة من حمص في “محطة الحافلات”، ونزل كلّ المسافرين بشكلٍ روتيني. حرارة الطقس تجعل ابنَ سلمية – كعادته – مخلوقاً نزقاً يتجنّب كلَّ ألوان الثرثرة. هو ابنُ الصحراء العاق الذي يؤمن في قرارة نفسه بأنّ زراعة الزيتون حالةٌ من التمرّد على بوابةٍ لم يُرِدها يوماً بوابةً للبادية.
كلّ الوجوه تائهة، فلم أتعرف أحداً، وكأنّ ملامح التعب والإرهاق صنعت من تلك الوجوه نسخاً كربونية لا يمكن التفريق بينها.
رغم ذلك، لم أشعر بالغربة، فالمدينة بأحيائها الهشّة التي تشبه أجنحة الفراشة وهي تقارع شظايا اللهب لا تزال كما تركتها: أصوات الباعة، واكتظاظ الأجساد في الطرقات، وحافلات النقل ترسم لوحةً سريالية لا مثيل لها على ظهر هذا الكوكب.
كأس المتّة وحزام الأمان
جلستُ بجانب السائق قَلِقاً، محمّلاً بمشاعر مختلطة بين شوقٍ للمدينة وصدمةٍ بحالها الثابت، فكأنّي تركتها صباحَ الأمس فقط.
حاولتُ شدَّ حزام الأمان بحركةٍ لا إرادية تعلّمتها في الغربة، إلا أنّ السائق أكّد لي أن الطقوس هنا لم تتغير، فلا داعي لأحزمة الأمان، “اجلس كما تشاء”، قالها ضاحكاً، فكأنّ الحرية كانت تتمرّد حتى على أحزمة الأمان في بلادنا، لأنّها لم تمنحنا الأمان يوماً.
إبريقٌ صغير وكأسُ متّة على “تابلو” السيارة كانا أشبهَ بهويةٍ بصريةٍ للمدينة، فدائماً هناك كأسٌ من المتّة معتّقٌ بروائح التبغ يستكين في جوف السيارة، كأسٌ شاهدٌ على يوميات هؤلاء السائقين الذين التهمهم التعب، وتكدّست ليالي الأرق والخوف تحت محاجر عيونهم المنهكة.
أمي لا تزال هنا
انزلقت السيارة متعثّرةً بفوضى الطرقات الوعرة، طرقاتٍ حملت جحافل النظام وهي تفرض سيطرتها على البشر والحجارة. طرقاتٌ تنفّست الصعداء وأسقطت جموعُ المتظاهرين شرعيةَ المجرم منذ اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011، طرقاتٌ ضمّت بين طيّاتها هتافاتِ الثائرين الذين يتوقون للحرية، وعاشت وعايشت تلك القبضة الأمنية الخانقة.
عادت الطرقات وعرةً كما كانت، تتنفس من شقوقها رائحةَ الحرية، وتنظر لعلم الثورة المنتصب في ساحاتها بخشوع.
لم يستقبلني أحدٌ سواها. لم يكن أحدٌ في اتساع المدينة متلهفاً لرؤيتي، لم ألمح وجهاً أعرفه قبل وجهها. كانت هناك، تقف مثل طفلةٍ صغيرة، تنقل بصرها بين ساعة هاتفها المحمول وخواء طريق حارتنا، تعبث بكل شيء لتصهر الوقت المتثاقل مثل صخرة سيزيف اللعينة التي تأبى الثبات أو النزول.
لم تصدق أني هناك، هذا الطفل الذي عبرت فوق ملامحه سنواتٌ من البعد.
اختلطت مشاعرها كعصفورٍ بلّله المطر، فلا هي تجيد الضحك أو ربما نسيته، وحتى البكاء كان فعلاً عصياً.
رغم أن السنوات طويلةٌ وقاسية، إلا أنها غيّرتها في نظر الكون كله، وكأنها كبرت بسرعة.
احتضنتني كمن يحتضن الكون بأسره، ولم أستطع أن أراها سوى طفلةٍ صغيرة، صغيرةٍ جداً وكأني لم أغادرها يوماً.
ملامح أخي بدورها لم تتغير كثيراً، وكأنّ الزمن أعلن استعصاءً في ذاكرتي. شعرت أني عدتُ ذاك الشابّ المتحمّس الذي اختار السفر والهرب عندما ضاقت قبضة الأسد على أعناقنا.
جزء من القلب مفقود
لم يبقَ بيتُنا كما كان. لا يهمّني هشاشته ولا ضعف أركانه، لم أكترث للأثاث العتيق الذي حارب سنواتٍ من الفقر والعوز والضعف.
طالعتني شقوقُ الجدران بعيونٍ خاوية، لكن أبي لم يكن هناك…
لم يكن جالساً على الأريكة، ولا يطالع كتاباً عتيقاً، لم أسمع صوتَ خطواته المتثاقلة التي صنعتها الشيخوخة، ولم أشمّ رائحةَ معجون الحلاقة على منشفته الخاصة، ولم ألمح بريقَ عينيه.
كان المتغيّر الوحيد في فضاء بيتنا الضيق.
رحل أبي وترك أثراً عميقاً لا يمكن أن يمحوه الزمن، جرحاً غائراً يمزّق نياط القلب بمديةٍ من الشوق.
كان اللقاء ناقصاً دون عناق. كنت أتمنى لو أعانق الشيخَ الرقيق وأستمع إلى دعواته، وأنصت لهمهماته، لكن هناك جزءاً من القلب مفقود، جزءاً غادرنا بهدوء مثل سحابةِ صيفٍ عابرة قرّرت الرحيل دون ضوضاء.
سحابةٌ لا تزال تطوف في سمائي الخاصة، تحلّق في مخيّلتي، أراه في كل لحظة وأعاتبه بحرقةِ سنوات الغربة.
أتمنى فقط أن يجيبني، ويخبرني: لماذا قرّرتَ الرحيل مبكراً يا صغيري؟
كنت أتمنى أن يكون هناك متسعٌ من الوقت لنتبادل النقاشات الحادة، وأرى نظرةَ الرضا والغضب في عينيك، لكنّ الحكمة الإلهية تحمل في أعماقها خيراً لا ندركه.
عدتُ سلمونيّاً
ها أنا ذا يا مدينتي، عدتُ لأخوض الحرب متأخراً، عدتُ لأنفض غبار السنين مثل كلّ العائدين الذين تختارهم الأقدار للمواجهات الأصعب دائماً.
عدتُ خجولاً أمام تضحيات الرفاق هنا، وعدتُ منصتاً لأوجاع المدينة التي تخطّت حدود المنطق والعقل.
عدتُ لأحتفظ بأسرار الغربة وخباياها، لأنّ صوت الألم ورائحة الفقر وملايين الدموع تجعلك صغيراً أمام تضحيات الصامدين في الداخل طوال سنوات الثورة والحرب.
عدتُ سلمونيّاً يحبّ التجوّل منفرداً في تلك الشوارع التي سقطت تباعاً من الذاكرة، في محاولةٍ لإعادة ترتيب لوحة المدينة وترميمها، رغم كلّ ألوان الخوف والقلق، وفي ظلّ حالةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ قاسية.
لكن عندما تضيق الدنيا، أتذكّر شيئاً واحداً: أنّ كتابة هذا المقال كانت، في لحظةٍ ما، حلماً مستحيلاً، بعيداً وصعب المنال.
للمزيد: تابع موقع نبض الخليج ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر
مصدر المعلومات والصور : شبكة المعلومات الدولية